كانت الأولى كما هو معروف هو اليوم الذي توحد فيه نواب الشعب بالاجماع وأعلنوا استقلال السودان من داخل البرلمان (19 ديسمبر 1955) والثانية هي الماثلة أمامنا الان (19 ديسمبر 2018) :
( ١ )
الجيل الذي أعلن الاستقلال من داخل البرلمان وتصدي لقيادة البلاد ، ومع الاحترام التام لهم ، كان السودان بالنسبة لهم هو العاصمة وبعض المدن الكبرى (مدني بورتسودان عطبرة…الخ) في احسن الأحوال ، لم يعرفوا او يهتموا لهذا التنوع الثقافي والاجتماعي الواسع الذي يزدان به السودان وبالتالي أخطأوا في ادارته .. وكانوا يعتقدون أنهم بالفعل قد ورثوا الديمقراطية الليبرالية عن البريطانيين دون أي اعتبار او استيعاب للفوارق الكبيرة بين البلدين من حيث درجة الوعي والعلم والتقدم الاجتماعي الي آخرها من الفوارق ، فكانت الديمقراطية بالنسبة لهم هي فقط إجراء الانتخابات العامة والتنافس السلبي بين الكيانات لأسباب ذاتية لا علاقة لها بوطن مترامي الأطراف ، ولا لشعب مواريثه متعددة الكيانات والجذور ، والنتيجة ، وكما ورد في مخاطبة للاجيال الجديدة في هذه الزاوية : ( … وكيف أورثوكم هذه البناءات الهشة في كل أوجه الحياة انتهت بكم إلى وطن منفصل في جغرافيته ، ومنهار في قلبه ، تنهشه الحروب الأهلية في أطرافه … ) .
( ٢ )
اما المصادفة التاريخية ، 19 ديسمبر الثانية (2018) ، ومن حيث العصر ، فقد جاءت في زمن يشهد أضخم ثورة في تاريخ البشرية ، ثورة المعلومات والاتصالات ، وفي ذلك فوائد ضخمة يصعب حصرها : الاتصالات تتم بين قيادات الانتفاضة وأحزابها وشبابها بسهولة ويسر لم تتوفرا في السابق ، صعوبة التزوير ، التعويض الكامل (تقريباً) بين مستوى الوعي العام عشية الاستقلال او انتفاضتي ١٩٦٤ و ١٩٨٥ وبينه في عصر الانحدار الاسلاموي الرهيب ١٩٨٩-٢٠١٨ (وهذا مبحث هام ولكنه طويل ليس الان وقته) ، كذلك في أن الفشل في كل شيء اصبح منتصباً أمام أعين السودانيين ويمشي بين ارجلهم ، حتى عند بعض انصار النظام ، وبالتالي لم يبق لمتردد ما يقوله .. إضافة إلى ثورة المعلومات فان التجربة قد نبهت الجميع الي أن وطنهم مليء بالتنوع الثقافي والديني والاجتماعي الذي يتوق لمن يديره إدارة خلاقة يجعل منه مصدر الثراء والقوة الاول فيه ..
( ٣ )
وإذا كانت اكبر الانتفاضات المدنية في وجه هذا النظام حتي الان هو انتفاضة سبتمبر 2013 الا أنها كانت محصورة إلى حد كبير فئوياً وجغرافياً ومطلبياً، اما ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ فانها شملت كل جغرافيا السودان تقريباً وكل الفئات الشعبية وأصبح الهدف مطلباً جذرياً واحداً هو إسقاط النظام ورحيله الي حيث مكانه الطبيعي في دفاتر التاريخ ومزابله ..
( ٤ )
ولكي تكون ١٩ ديسمبر ٢٠١٨ بالفعل انتفاضةً للنصر والخلاص يجب أن تكون القوي الحزبية والمدنية المنظمة قلباً قائداً لها ولحركة جماهيرها ، ولكي يتحقق ذلك ، وفي المقام الاول :
– كتلتي المعارضة الأساسيتين ، نداء السودان وقوي الاجماع ، علي قياداتها مسئولية أساسية وتاريخية : هم يعرفون تماماً حقائق اوضاعهم وبؤس الخلاف المفتعل بينهم ، الخلاف البائس المفتعل الذي يقحم نفسه في حركة بعضهم بدلاً عن الانصراف الكلي لواجباتهم تجاه الانتفاضة وعملية المعارضة عموماً .. ندعوهم بحرارة ، وبقلب مفتوح ومؤمن بأهمية أدوارهم وباهمية تفرغهم التام لقضيتهم الوطنية المشتركة ، أن يتم خلع الأسماء (نداء السودان وقوي الاجماع) نهائياً والتحرر من الكوابح غير الأصيلة وغير المبدئيه التي تفرق بينهم وأن يكونوا جسماً واحداً للانتفاضة ، ملهماً لشبابها وقائدا لجماهيرها ، جسم يضمهم جميعاً مع رفاقهم في منظمات المجتمع المدني والمهنيين وقطاعات الشباب والحركات المختلفة دونما عودة للوراء ولا نقاش للخلافات الشكلية والسطحية القديمة ..
ومن تمام النصر والخلاص لهذه الانتفاضة أن يكون الفرز واضحاً بين قواها وبين الهاربين من مركب النظام .. مع التقدير لبعض الآراء التي لا تمانع ، بل تفضل ، وجود الكيانات والرموز التي انسلخت من النظام في صفوف قوي الانتفاضة لأسباب معلومة ، الا انني اري العكس : لا حاجة لهم اصلاً .. فالقوي والتيارات الوطنية الأصيلة في معارضتها قادرة على الاتساع بالانتفاضة وعلى إدامه عنفوانها ، ومن اهم أسباب ذلك الا يشعر ، لا جماهير الشعب ولا طلائعه ، ان بين صفوفهم من كان ينعم بالسلطة وتسهيلاتها عندما كان يئن تحت السياط في معتقلاتهم وأقسام نظامهم العام .. ان يكون الفرز واضحاً بين قوي الانتفاضة وبين القافزين تنظيماتاً كانوا او افرادا ..
والعنصر الهام الثالث في انتصار الانتفاضة ان تتفق قياداتها علي شكل ومضمون الفترة الانتقالية (برنامج واضح علي الأقل في خطوطه العامة).. ونظراً لحجم الدمار الذي اصاب الوطن وبالتالي حجم التركة التي سترثها الانتفاضة ، والتي تستحيل مواجهتها بالإصلاح في فترة وجيزة او عبر كيان واحد ، ستحتاج الانتفاضة الي لجان عديدة وكبيرة تتولي مسألة دراسة وفحص وإصلاح المرافق المختلفة ، لجان تضم سياسيين وقانونيين ومهنيين خبراء دون اي اعتبار لغير وطنيتهم ، تبدأ بالمرافق الأهم فالمهمة : التعليم ، القضاء ، السكة حديد ، مشروع الجزيرة ، القوات المسلحة …الخ ، وما اكثر الخبراء والمهنيين في كل مناحي مؤسساتنا تضج بهم الذاكرة : المهندس هاشم محمداحمد ، مولانا سيف الدولة حمدنا الله ، ضباط بالمعاش عصام الدين ميرغني ، السر احمد سعيد ، فيصل ومحجوب محمد صالح ، مرتضي الغالي ، الشيخ عبدالله (ازرق طيبة) ، محمد بشير (الصاوي) وغيرهم وغيرهم من الاسماء اللامعة الخبيرة في مختلف المهن والمرافق ..