كتبة السلطان ومَنْ لَفَّ لَفَّهم اختزلوا قضية الشعب السوداني وغضبته في الخبز والوقود والنقود، وخرج علينا صحافي مدعٍ يهوِّن من أمر ثورة المواطنين الذين تحمَّلوا الإنقاذ على مدى 30 عاماً، ويرى أنَّ لا داعٍ لـ”قومة النفس” من أجل رجل سيبقى عامين، وبعده يمكن أن يختار الشعب من يريد.
طبعاً المقصود بالرجل هنا المشير عمر البشير رئيس الجمهورية الذي يعمل البرلمان على تعديل الدستور من أجل أن يستمرَّ حتى يموت، أو يموت الشعب.
وهناك أحد الكتبة ظلَّ يحلل الأوضاع على مدى 30 عاماً، وأوهم الناس بإنجازات النظام، وغنَّى لها، يتجه اليوم مع هبة الشعب إلى السلطة التي تنعم في ظلها لتفتح “شارع القصر” بدلاً من إغلاق التواصل الاجتماعي، والجامعات والمدارس، وكأنَّ الأمر يتطلب قرع باب القصر ليفهم ساكنوه مطالب الشعب، الذي أغلقوا في وجهه كل باب.
ويصرخ قارع طبول السلطان ربيع عبدالعاطي، وممثِّلهُ في القنوات الفضائية في وجه مقدم البرنامج في فضائية عربية طالباً فرصة الكلام، والتعبير عن أفكاره بلا مقاطعة إعمالاً لمبدأ حرية الرد، بينما نظامه يكمم أفواه الصحافيين الشرفاء، ويتيح المجال لمن يسبِّحون بحمده، ويضع المعارضين في المعتقلات، ويجعل جهاز الأمن مسؤولاً عن الإعلام، وراعياً له، وموقِّعاً على ميثاقه.
لم يحتمل ربيع مقاطعة مذيع، بينما نظامه يقطع أرزاق الصحافيين، بمنعهم من الكلام، ويمنح أي قضية تستحق التناول لقب “ممنوع من النشر”، ويضع في مقار الصحف “صول” يراقب ما يكتبه الصحافيون الكبار الرواد من أمثال الأستاذ محجوب محمد صالح، ليمنع هذا، ويسمح لذاك.
وعندما تتاح فرصة الكلام لهذا المدًّعي الذي عرف القاصي والداني كذبه، عندما تحدث عن دخل المواطن السوداني يتقيَّأ أكاذيب وضلالات، وهجوماً على الحزب الشيوعي السوداني، ليلعب اللعبة القديمة المعروفة، وهي العزف على وتر الدين، ثم يصوِّر المتظاهرين على أنهم مخربون، مدعياً كفالة حرية التظاهر، وهو هنا يواصل ترهات رئيس جهاز الأمن والمخابرات ووزير الإعلام، فالأول ادعى وجود مخربين تدربوا في إسرائيل، والثاني تحدَّث عن مندسين.
وادعى كتبة النظام ومسؤولوه أن الوضع يخضع لمراجعات، وأن الدقيق والوقود في الطريق، كأن من خرجوا إلى الشارع لا همّ لهم إلا “لُقيماتٌ يُقمن صلبهم”.
القضية ليست خبزاً ولا وقوداً ولا نقوداً، القضية وطن يضيع، ومواطنون يعيشون واقعاً مريراً: لا كرامة لهم في أرضهم، ولا حرية، وشباب يشعر بالغربة وهو يمشي على تراب بلده، ولم يعد له حلم يعيشه، ولا طموح يعمل من أجله، وأقصى ما يمكن أن يحلم به فيزة راع في الخليج، أو مشروع ميت في قوارب وجهتها إلى المجهول في بحار العالم ومحيطاته التي غالباً ما تبلع أحلام الغلابة.
إذن الناس خرجوا من أجل وطن تقهقر في كل شيء إيجابي، وأصبح يتذيل الأوطان، ويتقدمها في كل شيء سلبي، فأصبح في صدارة الدول الأكثر فساداً، والأكثر قهراً، والأكثر تهجيراً لمواطنيه، وتراجعت جامعاته، ومؤسساته الثقافية، ومستشفياته، وأنديته الرياضية، وأصبحت الخرطوم لا تكتب، ولا تنشر، ولا تقرأ، بل فقدت أرضه الصفة المميزة لمساحتها “المليون ميل مربع”، بينما جاء النظام بدعوى قهر التمرد، الذي أصبح له في النهاية وطن كامل مستقل، له أرض، وعلم، وناس كانوا جزءاً منا، وما زالوا، ورفع النظام شعار “نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع”، وأصبحت لا تزرع ولا تصنع، فذلّ فلاحها وعاملها، وهما ملح الأرض وأساسها، وضاع أكبر مشروع زراعي في إفريقية، وأحد أقدم خط سكك حديد، وواحد من أعرق خطوط الطيران، وبيعت سفارات البلد التي كانت في أعرق الأحياء في عواصم العالم، بل بيعت حديقة الحيوانات، وميادين الأحياء، وهاجر أصحاب رؤوس الأموال الوطنيون إلى دول الجوار التي فتحت أبوابها لهم.
أي نعم، إن القضية ليست خبزاً ولا وقوداً ولا نقوداً، بل وطنٌ يسعى إلى العدم بخطى حثيثة، وإذا لم ننقذه أغرقه أهل “الإنقاذ”؛ ليصبح أثراً بعد عين.