على مدى ستة أيام متتالية -وما زال الأمر مفتوحا- عمت الاحتجاجات الشعبية مدنا عديدة في السودان، غلب عليها الطابع الشعبي العفوي وبدون أي تحضير من جانب القوى السياسية الحزبية، مدفوعة بتردي الوضع الاقتصادي والمعيشي، والذي تمثل في ندرة الدقيق وغياب الخبز وقلة المعروض من الوقود وفقدان السيولة المالية لدى البنوك والأفراد. ثم تطورت المطالبات الشعبية في بعض التظاهرات إلى المطالبة بتغيير النظام الذي بدأ في العام 1989.
وفي المقابل، ركزت الحكومة من خلال مسئولين كبار على التفرقة بين حق التظاهر السلمي المحمي بالقانون والدستور، وبين ما وصفته بالمظاهر التخريبية التي اندفعت إليها بعض التجمعات الشعبية، وتمثلت في حرق مقرات الحزب الوطني الحاكم في عدد من المدن الكبيرة، وهي الأحداث التي سيتم مواجهتها ودعوة المتظاهرين لعدم الإنجرار إليها وإلا واجههم الأمن بحكم القانون. وشمل الموقف الحكومي أيضا تفسير ما جرى باعتباره مؤامرة شاركت فيها إسرائيل ومعارضون مسلحون، حيث وجهمدير جهاز الأمن الوطني والمخابرات صلاح قوش الاتهام لجماعة عبد الواحد نور بأنها وراء هذه الاحتجاجات، وأن الأمن اعتقل 280 فردا ينتمون إلىها تم تدريبهم مسبقا في إسرائيل. ووصفهم قوش بالخلايا النائمة في عدد من المدن السودانية، والذين انتظروا “اللحظة المناسبة” للقيام بعمليات تخريب في البلاد.
أما الحزب الحاكم فقد اعترف بأن الوضع المعيشي وضع “صعب” على المواطنين، في ضوء عدد من المشكلات، مثل مشكلة سعر صرف العملة المحلية التي وصلت إلى 60 جنيها سودانيا مقابل الدولار في السوق السوداء (تراوح السعر الرسمي حول 48 جنيها مقابل الدولار)، ومشكلة ندرة السيولة لدى البنوك، والمشكلات المتعلقة باستيراد السلع الرئيسية. لكنه استطرد بالقول إن الحكومة تعلم هذه المشكلات جيدا وتعمل على حلها. ثم تطور الأمر إلى اتهام شركات الصرافة بالمضاربة على العملة الوطنية، ومن ثم زيادة معاناة المواطنين. وقد فسر بعض المراقبين صورا وقف فيها بعض الجنود السودانيين موقفا حياديا في مظاهرات عطبرة تحديدا باعتبارها مؤشر أولي على انحياز المؤسسة العسكرية للمظاهرات الشعبية. أما بيان القوات المسلحة السودانية يوم السبت الماضي (22 ديسمبر)، بعد أربعة أيام من بدء التظاهرات، فقد حدد موقفه بتأكيد الولاء للقيادة السياسية. وقد وصل الموقف الرسمي إلى قمته بتعهد الرئيس عمر البشير بإجراء إصلاحات اقتصادية، لاسيما في النظام المصرفي، توفر للمواطنين الحياة الكريمة. ودعا المواطنين إلى عدم الانجرار وراء الإشاعات وعدم الاستجابة لمحاولات “زرع الاحباط”.
القوى السياسية والحزبية – التي لم يكن لها أي دور في مظاهرات الخبز والغضب- رأت الأمر من منظور مختلف، فالأداء السياسي العام، وانعدام أفاق التغيير السلمي، وتبدل الأولويات والتحالفات الخارجية، وانتشار الفساد والمحسوبيات بين النخبة القريبة من المركز، شكل محور تفسيراتها لموجة الاحتجاجات الجارية، جنبا إلى جنب مع تداعيات هذه المدخلات على الوضع الاقتصادي. ومن ثم، اجتمع عاملان رئيسيان، هما التهميش السياسي لعموم المواطنين ولكافة القوي السياسية، والحرمان الاقتصادي، ليدفع بالسودانيين البسطاء والطبقة الوسطى للمطالبة بتغيير منظومة الحكم ككل. هذه الرؤية تعني في جوهرها رفضا كاملا للتفسيرات الحكومية، وتمثل في الوقت نفسه مقدمة للدعوة إلى عمل منظم لإقناع نظام الحكم بالتغيير السلمي الشامل باعتباره الطريق الوحيد والآمن لإنقاذ البلاد من دورة عنف وفوضى لا يعلم أحد كيف يتم السيطرة عليها لاحقا.
وقد اجتمع بالفعل عدد من رموز الأحزاب السياسية وشكلوا تحالف “تيار قوى الانتفاضة”.غير أن الأمن السوداني ألقى القبض عليهم أثناء اجتماعهم، وبالتالي ظلت التحركات الجماهيرية على عفويتها وبعيدة عن أي تنظيم حزبي. مما يزيد من احتمالات التحركات الشعبية غير المنضبطة.
في ظل هذه البيئة كان ملفتا للنظر عودة الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي، إلى السودان ورئيس ما يعرف بتحالف نداء السودان المعارض، بعد عام من النفي الذاتي الاختياري. وأثناء لقاء جماهيري مع منتسبي الحزب طرح المهدي التزام الأحزاب والقوى السياسية والمدنية السودانية بما أسماه مذكرة “الخلاص الوطني”، “تتضمن وقفا لإطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية، وإطلاق الحريات العامة، وتكوين حكومة انتقالية برئاسة وفاقية تكون مهمتها إصلاح الاقتصاد والعدالة الانتقالية وعقد مؤتمر دستوري قومي لتفصيل استحقاقات السلام الشامل وكفالة حقوق الإنسان والحكم الديمقراطي.”
بعض المراقبين يشيرون إلى أن تلك المظاهرات لن تختلف عن سابقاتها، وأن الحكم اعتاد الخروج من الأزمات المشابهة دون أن يخسر شيئا. أما البعض الآخر فيرى الأمر هذه المرة مختلفا، والنماذج التي تحدث في أكثر من بلد متقدم اقتصاديا مثل فرنسا ومظاهرات “السترات الصفراء” والتي انتشرت عدواها إلى دول أوروبية كهولندا وبلجيكا، وحتى عواصم عربية استنسخت الأمر على طريقتها كما في تونس وبيروت، تصب جميعا في حقيقة أن حدث اليوم غير حدث الأمس، وأن التراكمات التي دفعت الناس إلى الخروج للشوارع تتطلب تفكيرا جريئا وليس عنادا. والعجيب المريب أن يخرج على السودانيين رمز إخواني يدعي أن الإخوان فصلوا أنفسهم عن الحكم منذ عدة سنوات، وليسوا من بنية النظام استشعارا منهم بأن القادم خرج عن السيطرة!!!.
الأمر على هذا النحو يطرح آفاقا للتغيير الحتمي. والسؤال هو أي تغيير وكيف؟ وهل سيكون عبر حوار سياسي جاد تجتمع تحت مظلته كل القوى السياسية والمدنية، سواء من الحكم أو خارجه وصولا إلى خطة عمل شاملة تجنب السودان والسودانيين مصيرا فوضويا يحمل في طياته كل أنواع الشر والخبث والتقسيم وانفراط العقد؟ أم تتجه الأمور إلى صدام يتسع شيئا فشيئا ويتيح تدخلات خارجية كتلك التي نراها في سوريا وليبيا واليمن؟ الاحتمالان قائمان حتى اللحظة، الأول يتطلب نظرة عاقلة من الجميع تحرص على السودان دولة وشعبا، والثاني مرتبط بعناد يُلمح إليه البعض ويدفع إلى المجهول.
المؤكد أن عقلاء السودان كُثر ولا شك في ذلك، منهم في الحكم ومنهم في المعارضة، واللحظة الراهنة مُحملة بالتحديات الجسام، أساس مواجهتها هو التفاف المواطنين حول نظام الحكم من خلال مشاركة فاعلة وعدالة يشعر بها الجميع. أما الالتفاف على مطالب مشروعة أو تجاهلها من خلال الدعوة إلى حوار سياسي لا معنى له، أو إعادة إنتاج الخطة “ب” التي استخدمت لمواجهة مظاهرات العام 2003، وكانت أيضا بسبب تردي الوضع المعيشي وانتشار الفساد وإقصاء القوى السياسية ومحاصرتها، وهي الخطة التي أودت بحياة 300 سوداني نتيجة استخدام العنف والقوة المفرطة، أو انتظار المدد من الخارج في صوة منح من قطر أو جنود من تركيا فلن يفيد كثيرا، وقد يهدئ بعض المشكلات لفترة قصيرة، لكن سيظل الوضع برمته قابلا للانفجار مرة تلو أخرى.
تاريخ السودان القريب يشهد على أن الانفجارات الشعبية لم تتوقف، وفي كل مرة تزداد مساحة الغضب ومساحة الرغبة في التغيير الشامل أيا كانت الطريقة. وتظل هناك فرصة للتحرك إلى الأمام نأمل إلا تفوت.
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية