(1) قد يوجد مندسون/مخربون بين المتظاهرين، كما تقول الأجهزة الأمنية والاعلام الرسمي للدولة السودانية، فالتظاهر الشعبي لا يشبه الطواف بالكعبة الذي لا ينخرط فيه الا نقى، وإنما يشبه الأعاصير والعواصف التي تلف في طياتها الخفيف والثقيل، والأصيل والدخيل.
(2) غير أنى أعتقد أن “المندسين/المخربين الأساسيين هم العناصر الرأسمالية المتخمة المتنفذة المتغلغلة في داخل نظام الإنقاذ، والتي استطاعت أن تستغفل مؤسسات الدولة، وأن تمتص موارد البلاد والعباد لتكون لها ثروات ضخمة موازية للثروة القومية، ولتستطيع في كل لحظة أن تتحكم في المخزون النقدي، سواء كان عملة محلية أو أجنبية. هذه الشريحة المتخمة المندسة هي التي صنعت الازمة الاقتصادية الأخيرة، وهي التي مهدت الطريق للثورة الشعبية الراهنة، وهي التي لا تبالى ما إذا اندفع النظام ليسفك دماء المتظاهرين، فأبناؤها وأموالها في حرز أمين.
(3) لقد كان الحل الواضح والبسيط لهذه المشكلة هو الإحاطة الحازمة بهذه الفئات، واستعادة الثروات “المنهوبة” وإعادة تأسيس دولة القانون. ولكن لم يستطع نظام الإنقاذ بحالته المتردية الراهنة أن يحاسب هذه الشريحة، أو أن يحد من نفوذها، لأنها ذات ترابط متبادل مع “رأس النظام” ومع أضلاعه، فهي الحاضن الاقتصادي له، وهو الضامن القانوني لنشاطها ووجودها، يقومان ويقعان معا. والدليل على ما نقول هو أن رأس النظام لم يستطع، حتى هذه اللحظة، أن يتحدث للشعب بصراحة وصدق عن طبيعة الأزمة الاقتصادية، وعن الفاعلين الحقيقيين لها، وحينما اضطر للحديث عنها في مدينة ود مدني عزا أسبابها “للخونة والعملاء والمندسين والمرتزقة”، وهذا وصف غير أمين، بل وهو نمط التغطية والتستر الذي درج عليه لسنوات طويلة، وهو نمط التهديد الأجوف والعنتريات الفجة ذاتها، لم يحد عنه قيد أنملة، ولن يفعل
(4) ولذلك فلا غرابة أن تنطلق الثورة الشعبية، ولا مناص في مرحلة من مراحلها أن يذهب رأس النظام، وأن ينكشف الغطاء عن حاضنته الاقتصادية، وأن تعطل ماكنته الأمنية، طال الزمان أو قصر.
(5) ولكن، ولكي يتم ذلك فعلى جموع الثوار من الشباب أن يعوا هذه الحقيقة الواضحة المريرة: إن اقتلاع هذا النظام دفعة واحدة، وبين عشية وضحاها، وعلى يد فصيل واحد من فصائل الثورة، غير ممكن. لا مناص من تجنب الاقصاء، لكي تتشكل جبهة عريضة للمعارضة، ولا مناص من خفض الرايات الأيديولوجية-الحزبية ونصب الراية الوطنية، ولا مناص من أن يلتقي تحت هذه الراية أهل اليمين واليسار والوسط ممن لم تتلطخ يده بدم، ولم يتلبس بفساد وله قدرة على التضحية والعطاء، ولا مناص من أن يقبل الثوار بمبدأ الازاحة المتدرجة للنظام، وبأقل التكاليف الممكنة، واستبداله بدولة القانون والكفاءات.
(6) أما من الناحية الأخرى، فعلى عناصر الحركات الإسلامية، ممن لم تزل لديهم بقية أمل في هذا النظام، أن يفتحوا أعينهم ليروا هذه الحقيقة: إن المعركة التي تدور الآن في المدن والشوارع السودانية ليست معركة بين الكفر والايمان، كما انها ليست بالضرورة معركة ضد الدين أو المتدينين، ولم تصنعها قوى أجنبية، ولا تقودها أحزاب اليسار أو اليمين، وإنما هي معركة الانسان السوداني العفيف ضد الفساد والظلم والقهر وما ترتب عليه من اهمال وافقار لعامة الناس؛ عليهم أن يدركوا أن مكانهم الحقيقي يجب أن يكون الى جانب إخوانهم وأبنائهم المستضعفين الذين يتظاهرون الان وهم جوعى، وليس الى جانب أصحاب الكنوز المدفونة في باطن الأرض والعمارات المنصوبة في كبد السماء. سيقولون لكم “نحن وأنتم في مركب واحدة، وما أصابنا سيصيبكم”، قولوا لهم “ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما”. ولا قوة الا بالله، والنصر للثوار المستضعفين.