الحلقة المفقودة في هذا التوقيت بعد أن سقط نظام الإنقاذ فعلياً، وبعد أن قال الشعب كلمته بخروج جميع مدن وقرى السودان، هي – أعني الحلقة المفقودة – عدم طرح قيادة معلومة (شخص أو هيئة) يلتف حولها الناس تُوكَل إليها قيادة البلاد لفترة إنتقالية ريثما تُجرى الإنتخابات العامة، وحتى لا يُستغل مثل هذا الفراغ ليمتطي ظهورنا جلاّد جديد يلزم الشعب عقود أخرى للتخلّص منه، وقد بلغ الحال بالبعض – في ظل عدم وجود هذا الكيان – أن بات (يتقبّل) فكرة إستلام السلطة بواسطة أعوان الرئيس البشير نفسه مثل صلاح قوش وبكري حسن صالح والجنرال كمال معروف.
قَدَر الثورة الحالية أنها إلتهبت في غياب كيان يُجمع عليه الشعب وجاهز لإستلام دفّة الحكم مثلما حدث في ثورة أكتوبر بإتفاق الأحزاب على ما عُرِف بجبهة الهيئات التي تسلمت الحكم بعد سقوط عبود برئاسة سر الختم الخليفة، أو ما حدث من إلتفاف حول تجمع نقابات المهنيين الذين شكّلوا فيما بينهم مجلس وزراء الفترة الإنتقالية لحكومة الإنتفاضة في أبريل 1985 مع المجلس العسكري الإنتقالي الذي أصبح رأساً للدولة.
مثل الشخصية “الأيقونة” التي تحصل على تقدير الشعب، خلق مثلها السفير إبراهيم طه أيوب الذي كان سفيراً للسودان في إيطاليا وأعلن في وقت مُبكِّر من إندلاع ثورة أبريل إنسلاخه من النظام وتأييده للإنتفاضة الشعبية، وقد لعب “أيوب” دوراً كبيراً في سقوط نظام مايو بعد أن توجّهت إليه أنظار وكالات الأنباء العالمية وأصبح مركزاً في توضيح أهداف ومبررات الثورة لدول وشعوب العالم.
فالموقف الشجّاع والبطولي هو الذي يخلق النجومية للشخصية التي تلتف حولها الجماهير، ويذكر أبناء الجيل السابق درجة التقدير الكبير الذي حصل عليه الدكتور محمد يوسف ابوحريرة وزير التجارة في الديمقراطية السابقة حينما وقف في وجه التجار من أبناء الحزب الذي كان يُمثّله في البرلمان (الإتحادي الديمقراطي) وإنتهى بتغلُّب التجار عليه بمساندة من السيد/ محمد عثمان الميرغني الذي أطاح به من الوزارة، وقد حصل “أبوحريرة” نتيجة ذلك على تأييد شعبي حسبما تحكي عنه وقائع الندوة التي أقامها في أعقاب ذلك بدار نقابة المهندسين بحي العمارات، وهي نفس الشجاعة والموقف الذي جعل من مولانا عبدالمجيد إمام “أيقونة” لثورة أكتوبر 1964.
كان (المأمول) أن تكون هناك شخصية – والأفضل كيان – يكون له دور بطولي في قيام هذه الثورة أو تصعيد أفعالها ليلقى تقدير الشعب ويُصبِح (الأيقونة) التي يلتف حولها الناس، مثلما حدث في بولندا التي لعب فيها مثل هذا الدور القائد العمّالي ليخ فاليسا الذي تصدّر في جسارة وبطولة قيادة الثورة في وجه حكم ديكتاتوري باطِش حتى نجحت الثورة وأصبح رئيساً للبلاد في عام 1990.
في الجانب الآخر، ليس هناك غباء مثل ما تردده بعض الحلاقيم بالقول بعدم وجود “بديل” لقيادة البلاد غير الرئيس البشير، فكل هؤلاء لصوص ومنافقين وأصحاب مصلحة، فمثل “القيادة” التي يقودها البشير يمكن أن يقوم بمثلها أي مواطن يُؤتى به من طرف السوق الشعبي او من أي موقف مواصلات، فهي قيادة بطيش وإهمال وبدون ترخيص، فالرئيس الذي جاءت من ورائه كل البلاوي التي نعيشها (تمزيق البلاد والحروب والفقر والفساد وغياب الحرية) آخِر ذكر بالغ يصلح لقيادة الوطن او لأن يكون رئيساً عليه، فالبشير وبخلاف الطبيعة البشرية التي تزيد المرء خبرة وحِنكة مع الأيام، فإن رصيده من الخبرة في ضروب الرئاسة تمضي بالمقلوب، فأخطاؤه تزداد فداحة في النوع والمقدار مع كل شمس تشرق.
والحال كذلك، لا بدّ من إستثمار الوقت في العثور على “أيقونة” تلتف حولها الناس لقيادة البلاد، والوطن مليئ بالرجال والنساء المؤهلين وزيادة لقيادة البلاد، من بين هؤلاء من قدموا تضحيات جسيمة في الأحزاب القائمة والتنظيمات الشبابية، ولكن لا توجد هناك غلبة شعبية لحزب مُعيّن، ولكل حزب خصوم ومناوئين.في ضوء هذا الواقع، أرى ضرورة أن تتوافق القوى السياسية (ويأتي ذلك مُكملاً للمبادرة التي تقدم بها حزب المؤتمر السوداني) على ترشيح الخبير الأممي عبدالله حمدوك، وحمدوك بالفعل يُمثِّل “الأيقونة” التي نبحث عنها، ذلك فقد دخل قلوب الناس بموقفه من النظام، ثم أنّه يُمثِّل القوى الشعبية الغالبية التي لا يجمع بينها حزب أو تنظيم، كما أن حمدوك يمتلك التأهيل العلمي والخبرة العملية المطلوبة في رجل المرحلة.