إن الحراك الثوري الذي تشهده أغلب مدن السودان يمضي قدماً في طريقه إلى النجاح وبناء دولة المواطنة والقانون والديمقراطية. وإذ يمضي الحراك في طريقه غير آبه بتهديدات الفاسدين وعبدة السلطة والمال، تتأكد لنا حقائق عديدة، لا بد من الوقوف عليها بإيجاز حتى نستصحبها في مسيرتنا إلى الخلاص من نظام تقوضت كل مبررات بقائه.
أولى الحقائق التي تكشّفت أمامنا هي أن حكومة الإنقاذ، وجماعة الإخوان المسلمين التي تقف ورائها، ترتجف ذعراً من رأسها إلى أخمص قدميها. إنها تخاف من هبة جماهيرية شبيهة بهبة أكتوبر 1960م ومن بعدها هبة أبريل 1985م. لا شك أن هذا الرعب يؤكد أن الحكومة لا تهمها مصلحة البلاد بقدر ما يهمها البقاء في الحكم مهما عظمت الخسائر وزاد فقر الشعب واستشرى فساد الإسلامويين.
في هذا الصدد، جاءت كلمة البشير في الجزيرة يوم 25 ديسمبر 2018م مؤشراً لا تخطئه العين على مدى الرعب الذي ينتاب الحكومة. ومع رقصه المستهتر بالخراب من حوله، لم يستطع الرئيس مداراة خوف بدا واضحاً على قسمات وجهه. لقد أرعد وأبرق، لكنه لم يقل سوى كلماته الخاوية التي ملتها الأسماع والتي لم تصل بالبلاد إلى مستقر لها في كافة نواحي الحياة طوال فترة حكمه المشؤوم: من اقتصاد وسياسة وتعليم وصحة.
فقد تأكد للكبير والصغير في السودان، وبعد ثلاثين سنة، أنها حكومة مجبولة على الكذب، وظل يعوزها الحياء وتمارس المراوغة منذ بيانها الأول. كما أدرك الشعب أن هذه الحكومة لن تصلح حال البلد أبداً طالما ظل همها يقتصر على تحقيق مصلحة تنظيم الإخوان المسلمين، سواء داخل السودان أو خارجه، فضلاً عن مصلحة سدنتهم وجلاوزتهم والمسبحين بحمدهم. كان مبدأ التمكين الذي عضت عليه الإنقاذ بالنواجذ قد أدى إلى حدوث أكبر شرخ في النسيج الاجتماعي الثقافي للبلد. افترق أبناء البلد الواحد إلى فسطاطين: فسطاط ينعم بالسلطة والثروة والجاه، وآخر لا يجد قوت يومه، ويعاني في استشفاء ذويه كما في تعليمهم، بينما شرد أبناؤه في آفاق الأرض، حتى إذا عادوا في عطلاتهم السنوية، كانت جبايات الإخوان المسلمين لهم بالمرصاد.
كان طبيعياً أن تحرم البلد من خيرة كوادرها المؤهلة في كافة القطاعات مثلما من الطبيعي أن يستفحل الفساد استفحالاً غير مسبوق لدرجة أوقعت السودان في أسفل السافلين وفقاً لمعايير الفساد الدولية، إذ احتل المرتبة 175 من بين 180 دولة في مؤشر الفساد لسنة 2017م. بذلك يمكننا أن نقطع يقيناً أن فساد النظام يستعصي على الحل في ظل استمراره في الحكم بمنظومة متكاملة من التمكين والمتاجرة بالدين. وهي منظومة لا مناص له من الاعتماد عليها ليظل متشبثاً بالحكم.
الحقيقة الثانية التي تكشفت لنا هي أن قوة إرادة الشعب السوداني ورغبته الأكيدة في تغيير حقيقي ينبني على النقيض مما اجترحت الإنقاذ من حروب وأزمات متطاولة، ويرتكز على فلسفة مغايرة لفلسفة حكم معطوبة تغفل التعليم والصحة وضرورة توفيرهما للإنسان لكي يعمل وينتج ويطور ويبدع. وبغير العمل والانتاج والتطوير والابداع لن تتحقق نهضة للبلد وتستدام، مهما علت الحناجر بالشعارات الفارغة والمشاريع الحضارية الفضفاضة.
إذن كانت قوة إرادة الشعب غالبة. فعلى الرغم من نجاح الإنقاذ في تدمير المجتمع المدني متمثلاً في النقابات والأحزاب والاتحادات الطلابية وكافة أشكال التجمعات السلمية، استطاع الشارع أن يصنع حراكاً بلا قيادة، وبتلقائية خلصت الجماهير الثائرة إلى أن القوة الأمنية الضاربة للإنقاذ ينبغي محاربتها من خلال صراع مفتوح في كل الجبهات. معنى ذلك خلق ما يشبه الفوضى الخلاقة. هكذا تضعضعت قدرات قوى الأمن والأجهزة الشرطية الأخرى وتوزعت بين متاهات عويصة ممتدة من بورتسودان إلى عطبرة وكسلا والقضارف وود مدني وسنار والخرطوم وأمدرمان، إلى كوستي وأمروابة والأبيض. والقائمة مرشحة إلى تمددٍ يغطي خريطة واسعة تجيش غضباً على الإخوان المسلمين وتزمجر في وجوههم أن قد حانت ساعة الرحيل يتلوه الحساب والعقاب.
ثالثاً، كانت هنالك مواقف خجولة لبعض قيادات ومسؤولي أحزاب كنا ننتظر أن نرى لها موقفاً حازماً للدفاع عن الشعب كما تدعي في كل محفل، فإذا بهم يقعون بين مطرقة الخوف من الإنقاذ وسندان خشية ضياع مصالحهم الجارية فيما إذا صمدت الحكومة للحراك الحالي. لكن، والحق يقال، هؤلاء أفادوا الشعب من حيث توقعوا الإضرار به: فهم بذلك أتاحوا فرصة مواتية لتفكير الشعب في مرحلة مقبلة لا قداسة فيها لأشباه آلهة الماضي وشياطينه.
ورابعاً، لقد وصل الشارع إلى نقطة اللاعودة. فإما أن يتواصل الحراك، رغم التضحيات الجسيمة، أو أن يتسع نطاق الصفوف، بحيث لا تقتصر على صفوف الخبر والوقود والسيولة فحسب. لقد أدرك الشعب برهافة أحاسيسه الباطنة أن المشكلة ليست في الاقتصاد، بل هي مشكلة سياسية في الصميم، انتجتها أفكار الإخوان المسلمين الإقصائية والمتغطرسة وممارساتهم الجشعة الفاسدة الهدامة وتوجهاتهم العبثية والإرهابية. كما أدركت الجماهير في كل مكان في السودان أن التردي الحالي في أوضاع البلد ما هو إلاّ حصاد هشيم تستحقه الإنقاذ جزاء وفاقاً. أما الوعود بإجراء اصلاحات، أو وصول اسعافات خارجية عاجلة تنقذ الإنقاذ من شفا الهاوية التي تشرف عليها، فما هي إلاّ أضغاث أحلام وخديعة طالما جُربت مراراً وتكراراً.
أخيراً، ينبغي على الحراك في الخارج أن يؤازر بأكثر من التظاهرات والاحتجاجات. وعلاوة على الضغوط السياسية على الدول الصديقة والمستضيفة للجاليات السودانية لتوقف دعمها للإنقاذ، لابد من التفكير في نفير لجمع أموال توجه لدعم الحراك الثوري في الداخل وقوفاً جسوراً مع أولئك الذين يضحون بدمائهم الطاهرة في سبيل سودان جديد سوف نهنأ به جميعاً.
yassin@consultant.com