ها نحن نستقبل عاما جديدا – 2019، وفيه سيبلغ عمري الرابعة والسبعين، بينما سيُكمل نظام الجبهة القومية/الحركة الإسلامية/المؤتمر الوطني/الشعبي عامه الثلاثين، أي ما يُساوي أكثر من 40 في المائة من عمري، وأكثر من 46 في المائة من عمر السودان المستقل، وأكثر من مائة في المائة من أعمار معظم شباب السودان الذين يغتالهم النظام بدم بارد – ثلاثين عاما من الخراب الممنهج، والقمع الوحشي، والظلم الفادح، والإستباحة الشرهة لمقدرات الشعب والوطن؛ ثلاثين عاما من نفس التخبط المستمر، والإحتيال المفضوح، والأكاذيب المكشوفة المُكررة، والشعارات الجوفاء، والوعود التي تكذبها النوايا والأفعال، و”الزلعة” التي لا يُشبعها سُحت، والفشل الذريع في كل ما يُقدمون عليه، (إلا اكتناز المال الحرام، ووسائل السيطرة على شعب السودان الأعزل المُسالم، وكتم أنفاسه، وإلهائه بالتجهيل المُنظم عن طريق التعليم الردئ ووسائل الإعلام الموجّهة، والمخدرات).
ثلاثون عاما وفي داخلي تمور أحاسيس وعواطف شتى:- الغضب الحارق، والحزن المُمض، والخوف. الغضب من ما يفعله النظام بالبلاد مما لا يسهل إصلاحه:- حربه العبثية “الجهادية” في جنوب السودان حتى قرر أهله – طواعية وبأغلبية ساحقة – الإنفصال وفي النفوس ضغينة رغم الأواصر التي تتضح لنا الآن؛ وحربه في دارفور المسالمة، حتى نكّل بأهلها، وشردهم نحو معسكرات اللجوء والنزوح، وإلى الهجرة حتى إلى اسرائيل، وهتك نسيجهم الاجتماعي وتعايش أهلهم السلمي، وترك في النفوس جروحا غائرة وغبنا يصعب محوه؛ وخرابه لعلاقات السودان الخارجية مع معظم دول العالم (وهو إنجاز فريد لم تسبقه إليه دولة نامية أو غير نامية أخرى) وتدخله في شؤونها الداخلية، وشتائمه المقذعة لقياداتها، ثم محاولاته “لَحْس” ما قام به، وتخبطه شرقا وغربا بعد أن فقد ثقة هذه الدول واحترامها؛ والغضب، على وجه الخصوص، من تدميره لمؤسسات الدولة كافة، وخلقه لمؤسسات موازية، وتدميره لركائز الاقتصاد الوطني، وصرفه السفيه على وسائل القمع والقتل. أليس من العجيب أن يمتلئ السودان بعدد لا حصر له من “الثاتشرات” المدججة بالسلاح، وبعدد لا حصر له من القنابل المسيلة للدموع والهراوات والدروع الزجاجية في كل مدينة وبلدة في وقت لا يجد فيه المواطن الدواء ورغيف الخبز؟
أما الحزن فإنه يعتصر قلبي على شباب السودان من الجنسين الذين فقدوا العشم في الغد، وعلى حال السودان الذي كان واعدا عندما استقل في عام 1956 قبل معظم بلدان أفريقيا وأصبح الآن تحت هذا النظام يخشى من التشظي والانهيار. كان بجيشه جنرالات حاربوا في الحرب العالمية الثانية، وأطباء لهم شهرة دولية، وعلماء لهم بحوث واكتشافات باسمهم، وخدمة مدنية تتصف بالمهنية والإتضباط والأمانة والحس الوطني، وخدمة دبلوماسية لها انجازاتها على الصعيد الإقليمي والدولي في مناصرة حركات التحرير ومطالب بلدان العالم الثالث في التقدم والمشاركة في العمل متعدد الأطراف، وشعب مثقف يُتابع أحداث العالم من حوله ويتفاعل معها ويؤيد القضايا الإقليمية العادلة. وانظر حولك الآن إلى بلدان الجوار المباشر والبعيد في أفريقيا وهي تخطو بشعوبها خطوات واسعة على دروب التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسودان يشهد في كل عام تدهورا مريعا بفعل سياسات وجهل وفساد وتخبط النظام وقادته حتى شارف الآن على الانهيار والتمزق.
تمتزج في داخلي هذه المشاعر وغيرها، يطفو بعضها على السطح بينما يغوص البعض الآخر في قاع الوجدان، ولكنه لا يهمد، كبراكين إندونيسيا الرابضة على قاع البحر التي تتفجّر حِمما بين الحين والآخر. ما فجّر الحِمم هذه المرة في قلوبنا جميعا، وخاصة الشباب من الجنسين، ليس هو فقط الوضع الاقتصادي والفساد البيّن وانعدام السيولة والخبز والدواء والوقود، بل هو بلا شك انعدام حياء النظام وازدراءه لهم، و”حقارته” التي نضحت في خطب رئيس الجمهورية ووزير الإعلام وغيرهم من المتحدثين باسم النظام، وهم يصفون المتظاهرين الذين فتحوا صدورهم للرصاص بالمندسين والخونة والعملاء، وتقديم الحجج والاتهامات الطفولية الفطيرة عن عملاء دافوريين للموساد، وخلايا تصنع قذائف المولوتوف، لتفسير اسباب المظاهرات. هل يظن النظام أن شعب السودان في مدنه وقراه ليس له من الأسباب القوية التي تدفعه للإحتجاج في وجه قوات ومليشيات و”ربّاطة” المؤتمر الوطني؟ هل ينتظر المتظاهرون الغاضبون التحريض من اسرائيل أوغيرها من “الجهات” الأجنبية؟ هل ينتظر شباب السودان التحريض من قنوات التلفزيون الأجنبية ليخرج ليُعبر عن غضبه ومطالبه المشروعة التي ظل النظام ورئيسه يَعِد بحلها كل ما ضاقت الحلقات وفاض الكيل؟ ألم يقل رئيس الجمهورية (والفيديو موجود) أن عام 2013 سيشهد حل كل الأزمات وهبوط قيمة الدولار إلى بضعة جنيهات؟ أيظن النظام ورموزه أن حل المشاكل الاقتصادية يتم بالدعاء والتضرع والصبر كما يغشّون الشعب المكلوم كلّ يوم؟ وإذا كان الحال كذلك، لماذا يحتاج السودان لحكومة ورئيس ووزراء ونظام مصرفي ومؤسسات مُكلّفة؟ لماذا لا نعتكف جميعا بالمساجد ونتضرع ليلا ونهارا لانفراج الأزمة الاقتصادية وهبوط قيمة الدولار وتحقيق التنمية المستدامة”؟
في ظني أن مثل هذا “الإستكراد” المكشوف و”الحقارة” ومحاولات اللعب المفضوح على الذقون هو ما أجّج غضب الشارع، إضافة إلى العنف الأعمى الذي واجه به النظام المتظاهرين العزل، إلا من غضبهم وعزمهم على إحداث التغيير. وفي ظني أيضا أن التفسيرات الفطيرة والشتائم للمتظاهرين هي انعكاس لاضطراب النظام وارتعاب رموزه مما رأوه في شوارع مدن السودان وقراه من عزم وجسارة، واستهانة بالموت لشباب بلغ بهم اليأس مبلغا يجعلهم لا يأبهون بما قد يحل بهم. ما أرعب النظام أمران:- أولهما، أن المتظاهرين جلّهم من الشباب دون العشرين (الجيل الذي “أعادوا صياغته” والذي ظنوا أنهم قد دجّنوه، وغسلوا مخه، وصرفوه عن دروب النضال والمطالبة بالحقوق)، وثانيهما أن الإحتجاجات الغاضبة بدأت من الأقاليم وانتشرت في معظم مدن السودان الكبيرة والصغيرة ولم تهدأ رغم أرتال “الثاتشرات” المسلحة، والقوات من كل صنف وزي، وصفوف الشهداء والجرحى والمعتقلين – إلى جانب ما قد يبدو وكأنه معارضة – أو قل “جرجرة” رجلين – من جانب قوات الشرطة والقوات المسلحة.
سؤال لا مفر من مواجهته حول خطاب رئيس الجمهورية أمام قيادات الشرطة وقوله أننا أكرم من أن نُصبح لاجئين:- أين يعيش السيد رئيس الجمهورية؟ منذ بداية عهده السعيد في 1989، خرج ملايين السودانيين لاجئين ومهاجرين وانتشروا من نيوزيلندا في أقصى جنوب الكرة الأرضية إلى ألاسكا في أقصى شمالها، بينما ينتظر بقية السودانيين، حسب رواية الطيب صالح، “الهروب إلى أيّ بلد يقبلهم”! أم لعلّه كان يقصد قيادات المؤتمر الوطني/الحركة الإسلامية التي ورثت أرض السودان والذين لا يقبضون على الجمر؟ أكتفي بهذا ولا أتحدث عن إحتياج السودان “لحسن الإدارة”، و”القصاص”، وفهم السيد الرئيس – أو جهله – لآيات الله البيّنات.
شكرا لشباب وشهداء السودان الذين أحيوا فينا جذوة الأمل واقتراب فجر الخلاص (بعد أن خشينا ألّا يمتد بنا العمر لنراه). وشكرا لهم على ترسيخ إيماننا بأن الأوضاع غير الطبيعية قد تستمر ولكنها قطعا لا تدوم!
وكل عام والسودان بخير (رغم الداء والأعداء، ولؤم النظام وبطشه)!
aelhassan@gmail.com