(متحف بيت الخليفة) متحف معروف لدى سكان العاصمة السودانية الخرطوم، وهو في أم درمان العاصمة الوطنية، والخليفة هو الخليفة عبدالله بن محمد، خليفة الإمام المهدي قائد الثورة المهدية التي غيَّرت مجرى تاريخ السودان، واستطاعت أن تحرِّره من الاستعمار التركيّ المصريّ الذي ظل جاثماً على صدر شعبه زمناً طويلاً.
الخليفة عبدالله
هو الخليفة عبدالله بن السيد محمد، وُلد بدار التعايشة في قرية أم دافوق بجنوب دارفور عام 1846م، ونشأ في طفولته في مسجد أجداده، وكانوا من حملة القرآن، فقد وفد جدهم الأكبر السيد محمد القطب الواوي من تونس ذات السمة الصوفية آنذاك إلى دار التعايشة بدارفور، ثم رجع إلى تونس حيث توفاه الله في مدينة القيروان، ولا يزال ضريحه مزاراً لمُريديه، وهو مؤسس الطريقة السمانية بغرب السودان.
حفظ الخليفة عبدالله القرآن الكريم بوساطة الكتابة على اللوح الخشبيّ، ودرس العلوم الشرعية والفقه واللغة العربية على يد والده السيد محمد، وعند قيام الثورة المهدية اتصل الخليفة عبدالله بالإمام المهدي، وأصبح من أخلص مريديه، وأدَّى دوراً مهماً وحاسماً في الثورة المهدية، وقاد موقعة غدير الراية الزرقاء (السوداء) التي كانت تضم أبناء غرب السودان، وبعد فتح الأبيض صار اليد اليمنى للإمام المهدي بوصفه أمير الجيش، وخليفة الخلفاء، والنائب عن الإمام المهدي. وبعد وفاة الإمام المهدي خلفه في قيادة الدولة المهدية، وواجه عقبات كثيرة داخلية وخارجية، وامتدت مدة حكمه من وفاة الإمام محمد أحمد المهدي في 22 يونيو عام 1885م إلى استشهاده يوم الجمعة 24 نوفمبر عام 1899م بأم دبيكرات جنوب غرب مدينة كوستي بالنيل الأبيض.
بيت الخليفة
يقع بيت الخليفة في مدينة أم درمان العاصمة الوطنية للسودان، وتبلغ مساحته نحو 3500م2، وقام ببنائه حمد عبدالنور تحت إشراف الإيطالي بيترو، وبُني البيت على مرحلتين: المرحلة الأولى تتكون من طابق واحد، وبُنيت في المدة (1887- 1888م)، والمرحلة الثانية هي بناء طابقين، ونُفِّذت عام 1891م. ويقع البيت في منطقة يفوح منها عبق التاريخ، ويتوسط مجموعة من المواقع الأثرية المهمة بالمدينة في ذلك الوقت؛ إذ يجاور جامع الخليفة من جهة الشرق، في مواجهة قبة الإمام المهدي، ويحدّه من الشرق بيت الأمير شيخ الدين بن الخليفة، ومن الجنوب بيت السيد البشري بن الإمام المهدي، ويحيط بكل هذه الآثار التاريخية سور أم درمان التاريخيّ الذي كان يحيط مرافق الدولة المختلفة.
بعد هزيمة جيوش الدولة المهدية في موقعة كرري الفاصلة في 2 سبتمبر عام 1898م ودخول الجيش الغازي أم درمان واستباحتها زمناً؛ استغلّ الحاكم الإنجليزي كتشنر باشا هذا المنزل للسكن إلى حين إصلاح ما خربته الحرب في سراي غوردون باشا الإنجليزي حاكم عام بلاد السودان الذي قتله الإمام المهدي في أثناء تحرير الخرطوم في 26 يناير عام 1885م، ثم استُغلّ البيت بعد ذلك في سكن مفتش مركز أم درمان الإنجليزيّ إلى أن يُبنَى منزل جديد له عام 1911م.
وتعرّض المنزل بعد ذلك للهجر، وصار يستعمل إصطبلاً للخيل إلى عام 1924م حينما قدم أحد المفتشين الإنجليز، ويُدعى برمبل ومعه زوجته، وكانت لها
اهتمامات تاريخية، فطرحت فكرة تحويل البيت إلى متحف، واقترح برمبل الفكرة على السكرتير الإداري، فوافق عليها؛ ليصبح بيت الخليفة متحفاً عام 1928م.
التجوال في أقسام المتحف
أول ما يلفت نظر الزائر عند المدخل لوحة على الحائط كُتب عليها باللغة الإنجليزية HVBRT HOWARD FELL HERE SEPT.2.1898، والشخص المذكور هو المراسل الحربيّ لصحيفة التايمز البريطانية، وكان يغطي أخبار المعارك، وكان يقف في هذا المكان عندما كانت مدافع الإنجليز تدكّ قبة الإمام المهدي انتقاماً لمقتل غوردون باشا الذي صنعت منه الصحافة البريطانية قدِّيساً، وقد حدث ذلك بعد انتصار الغزاة في معركة كرري، وسقوط أم درمان في أيديهم، وأصيب الصحفيّ بشَظِيَّة أردتْه قتيلاً في الحال. وفي داخل المتحف جهة اليسار أربع عربات تجرّها الخيول، أو ما يعرف باسم (الكارته) أو (الحنطور) وجدت بأم درمان أيام الاحتلال.
مصانع الذخيرة
نجد أنفسنا في صالات العرض أمام مصنع متكامل للذخيرة، يتكون من (هون) كبير مصنوع من النحاس الخالص، كان يستعمله الأنصار في سحق الكبريت؛ ليصنعوا منه الذخيرة، ويوجد بالقرب منه نماذج للآلات التي كانت تُستخدم لكبس البارود، ونماذج من القوالب التي كانت تُستخدم لهذا الغرض، وكمية من الذخيرة التي كان يصنعها الأنصار ويستخدمونها في حروبهم. فقد أقام الخليفة عبدالله مصانع لتصنيع الذخيرة، وإمداد جيشه بها، ومصانع لاستخراج البارود من جبال كتم والحلفايا وأم درمان، وأقام أماكن للتعبئة والإعداد في مصانع أم درمان وفي جزيرة توتي. وهكذا استطاع أن يمدّ جيشه باحتياجاته من المصادر المحلية، ويكسر الحصار الذي فُرض عليه من الدول الأوربية، وكان له إمداد لا بأس به من الرصاص والنحاس المحلييْنِ؛ لصنع المفرقعات والظروف.
ويوجد بالغرفة مجموعة من المسدسات التركية، وبنادق متنوعة الأحجام والأنواع، ومجموعة من الدَّرَق المصنوعة من جلد التمساح وفرس البحر، إضافة إلى مجموعة من الدروع المصنوعة من الحديد التي يلبسها قادة جيوش الأنصار؛ للحماية من السلاح الأبيض (السيوف والرماح والحراب وغيرها). وتضم الغرفة -أيضاً- لوحة كتبت باللغة الإنجليزية، تحدّد الخسائر التي تكبَّدها كل جانب في معركة كرري المشهورة التي أدَّت إلى نهاية الدولة المهدية.
ولعل أهم ما يلفت النظر قبل الدخول إلى هذه الغرفة هو نموذج للحارس الخاص للخليفة عبدالله الذي يقف أمام باب الغرفة، ولا يدخل أحد على الخليفة عبدالله إلا بإذن منه، واسمه الحركي (أبو جبة).
قاعة مجلس الشورى
يوجد في المدخل إلى قاعة مجلس الشورى مدفعان؛ أحدهما غَنِمتْه قوات الأنصار في معركة شيكان التي أباد فيها الأنصار جيش هكس باشا عن آخره، أحد هذين المدفعين يستقرّ فوق قاعدة ويضرب من على ظهر السفن، أما الآخر فيستقرّ فوق عجلات وتجرّه الخيول، وقد شارك المدفعان قي ضرب قبة الإمام المهدي بعد انتصار قوات الاحتلال في معركة كرري.
وقاعة مجلس شورى الخليفة قاعة واسعة، كان الخليفة يجتمع فيها مع أهل الرأي والمشورة؛ ليناقش معهم الأمور التي تهمّ الدولة، وكان مجلس الخليفة يختلف باختلاف الموضوعات التي يراد أخذ الرأي فيها، وكانت أهمية الموضوع المطروح وسِرِّيَّته هي التي تحدِّد نوع العضوية وطريقة النقاش ومكانه، وكان بعض الموضوعات الخاصة والخطط الإدارية والعسكرية يعقد بقاعة المجلس داخل البيت؛ حيث يدخل الخليفة بعد أداء الصلاة؛ ليناقش الأمور مع مَن يختار مِن مجلس الشورى، أما الأمور التي تتطلب السرية والمعاملة الخاصة، فينتقي الخليفة بعض الأفراد؛ لينفرد بهم في غرفته الخاصة. وفي الغرفة الداخلية أو العلوية قد ينفرد الخليفة بأحد معاونيه أو كَتَبة الرسائل؛ لدراسة المسائل المهمة، واتخاذ قرار سِرِّيّ فيها.
وينعقد المجلس بالجامع، وتفرش أرض الجامع بالفِراء و(البروش)، ويرأس الخليفة الاجتماع، ويجلس الباقون أمامه في شكل نصف دائرة، أما في قاعة المجلس الرئيسة فالأمر يختلف؛ حيث يجلس الخليفة فوق سرير عليه (برش) مصنوع من السعف أو الفرو، على حين يجلس الأعضاء أمامه على الأرض.
وعُرِضت على جدران هذه الغرفة مجموعة من الآثار التاريخية؛ منها: بساط الصلاة، وكان يطلق عليه اسم (المقلوبة)، وهو مصنوع من قصب نبات الدخن، وهو نبات ذو رائحة زكية من النباتات الباردة، وقيل في سبب تسمية بساط الصلاة بالمقلوبة: إن الرجال والنساء كانوا يصلّون عليه، وقيل: إن الإمام المهدي نفسه قد صلى عليه.
ويوجد -أيضاً- لوحة علم للدولة المهدية، كُتب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، محمد المهدي خليفة رسول الله، وعلم تركيا، وقماش من النعش الذي كان يغطي تابوت الإمام المهدي، ونموذج للجُبَّة المرقَّعة التي كان يلبسها الأنصار، إضافةً إلى خطاب من الإمام المهدي إلى أهل الحلاوين، يحثّهم على الاهتمام بالزراعة، والسعي إلى الرزق، إضافةً إلى لوحة للخليفة عبدالله في مجلس الشورى توضّح كيفية جلوس الخليفة في أثناء انعقاد المجلس.
العُملة المهدية
في قسم المال الذي هو عصب الحياة، نرى كيف كانت تسير الحياة الاقتصادية في الدولة المهدية من خلال ما عُرض من آثار، ففي الحقبة التركية لم يكن هناك نقد موحَّد، وتداول الناس عدة عملات؛ منها: العملة التركية ممثلة في الريال المجيدي، وبعض العملات الصغيرة الأخرى، وتداول المواطنون العملة المصرية بفئاتها المختلفة، والعملة الإنجليزية، والريال النمساوي، والريال الإسباني، والريال المغربي، والفرنك السويسري، بل إن المعاملات كانت تُجرَى أحياناً باستخدام الأوراق والجلود. وفي السنوات الأولى من الثورة المهدية تُدوول كل العملات وجميع النقد في ذلك الوقت، وفي عام 1885م ضُربت أول عملة سودانية (الريال الفضي، والجنيه الذهبي، ثم الفئات الصغرى من النحاس).
ومن أجل ضبط حركة العملات النقدية قامت الدولة المهدية بسحب معظم المسكوكات النقدية التي كانت متداولةً في أيدي الأنصار، ووضعتها في بيت المال، وبهذه الخطوة قضت الدولة المهدية، إلى حد كبير، على ظاهرة التضخُّم. وفي محاولة جادَّة لإنشاء نظام نقدي في السودان بوضع دعائم اقتصادية منفصلة عن الخلافة الإسلامية في تركيا؛ أمر الإمامُ المهديُّ أحمدَ ود سليمان -أمينَ بيت المال- بضرب عملة محلية تسدّ الفجوة التي أحدثها التناقص المستمرّ في العملات الأجنبية، ولأول مرة في فبراير عام 1885م أصدر بيت المال ثلاث فئات نقدية، شملت الجنيه الذهبي، والريال الفضي، ونصف الريال، وكان الجنيه الذهبي صورة طبق الأصل من الجنيه المصري؛ إذ ضرب على طُغْرائه اسم السلطان عبدالحميد، وعلى الوجه الآخر تاريخ الضرب عام 1255هـ، وقد سُحب هذا الجنيه فيما بعد، وضُرب جنيه يحمل اسم الإمام المهدي، وكتب على طُغْرائه: الريال الفضي بأمر المهدي، وعلى الوجه الآخر: ضُرب في الهجرة سنة 1302هـ.
العملة في عهد الخليفة عبدالله
في عهد الخليفة عبدالله وجه أمين بيت المال إبراهيم محمد عدلان عام 1887م بفتح دار الضرب وسك فئات مختلفة؛ منها أربع فئات، شملت الريال المقبول، ونصف الريال، وربع الريال، والقروش بأنواعها، وجاء في الطُّغْراء كلمة: مقبولاً؛ عوضاً من: بأمر المهدي، وفي الوجه الآخر: ضُرب في أم درمان سنة 1304هـ.
وفي أمانة النور الجريفاوي (1891- 1894م) ضُرب نوعان من العملة؛ النوع الأول: الريال أبو كبس؛ نسبة إلى الحراب التي كانت على جانبيه، والنوع الثاني: العملة الجديدة، وصدر في العام نفسه ثلاث فئات نقدية: ربع ريال، وأربعة قروش، وقرشان. وفي سنة 1311هـ ظهر نوع جديد من العملة يقارب العملة الجديدة؛ اسمه أبو هلال نسبة للأَهِلَّة المنقوشة على جانبيه، وعرفت هذه العملة –أيضاً- باسم (عبدالمجيد) نسبة إلى صانعها، وفي سنة 1312هـ ضُربت طبعة ثانية من أبي هلال، ونُسبت لاسم صانعها (وقيع الله)، وحُذفت عبارة (عُملة جديدة) من طُغْرائها، واستبدلت بها كلمة (مقبول). وفي سنة 1315هـ صدرت عملة أخرى نُحاسية لخليفة المهدي، تشبه أبو كبس في شكلها العام، لكنها لم تكن متقنة الصنع، وعُرفت محلياً بـأبي شالاية.
وعرض في المتحف نماذج من العملات التي كانت سائدةً في الدولة المهدية؛ منها: الريال أبو كبس، إضافة إلى ختم الإمام المهدي، الذي كان يستخدم في دفع العشور، وعُرضت آلة كاملة كانت تستخدم في سكّ العملة في ذلك العهد.
مقتنيات السلاطين والأمراء
يوجد في غرف العرض مجموعة من مقتنيات بعض أمراء المهدية؛ على النحو الآتي:
– الأمير عبدالرحمن النجومي
أحد أمراء المهدية العظام، كان يلقّب بأمير الأمراء، وهو ثالث ثلاثة يصفهم الإنجليز بالقادة الذهبيين في الثورة المهدية، وهم: الأمير عثمان دقنة، والأمير حمدان أبو عنجة، والأمير عبدالرحمن النجومي، وينحدر النجومي من قبيلة الجعليين، وانضم إلى الإمام المهدي عام 1881م في بداية الدعوة، وهو من المهديين الأوائل الذين شاركوا في معركة (الجزيرة أبا) أولى معارك الثورة المهدية، وأدَّى دوراً مهماً في معركة شيكان؛ إذ استطاع كسر المربع البريطانيّ الذي كان يقوده هكس باشا، وألحق بذلك الجيش هزيمة ساحقة، وكان له دور بارز في حصار الخرطوم وتحريرها؛ إذ استطاع بعبقريته العسكرية الفذة أن يُحدث ثغرة في دفاعات غوردون باشا من خلال بوابة المسلمية والقصر يوم 26 يناير عام 1885م، وقتل غوردون باشا في القصر. وفي يوليو من العام نفسه صار النجومي أميراً لبربر ودنقلا، وأسند إليه الإمامُ المهدي قبل وفاته قيادة الجيش المتوجه إلى مصر؛ لتحرير شعبها من قبضة الخِدِيوي والإنجليز أعداء الإسلام.
وبعد وفاة الإمام المهدي بايع النجومي الخليفة عبدالله الذي أيّد توجه الأمير عبدالرحمن النجومي إلى مصر تنفيذاً لأوامر الإمام المهدي، وكان يخاطبه في كل رسائله التي أرسلها إليه بالحبيب الأمير عبدالرحمن النجومي، ووضع تحت قيادته في هذه الحملة جمعاً من الأمراء وأبناء غرب السودان، وصار الأمير عبدالرحمن النجومي بذلك قائداً لجيش يمثِّل وَحْدة السودان.
سار النجومي لإنجاز المهمة التي أوكلت إليه، وواجه في سبيلها صعوبات جمة؛ من حيث شُحّ الإمدادات، وبعد المسافة، ووعورة الطريق الصحراوية؛ مما أثار أعداء المهدية، فأشاعوا أن الخليفة عبدالله كان يريد التخلص من الأمير عبدالرحمن النجومي، وهذا كذب وافتراء؛ لأن إخلاص النجومي للخليفة عبدالله وإيمانه بالمهدية لم يكن موضع شك في نفسه أو في نفس الخليفة عبدالله في يوم من الأيام.
واشتهر الأمير عبدالرحمن النجومي بشجاعته الفائقة، وتميَّز من غيره بقدرات عسكرية هائلة، وصبر عظيم على الشدائد؛ إلى أن لقي ربه شهيداً في معركة توشكي في 3 أغسطس عام 1889م داخل الحدود المصرية، ولم يتجاوز عمره 36 عاماً.
ومن مقتنيات الأمير عبدالرحن النجومي المعروضة: سرج حصانه، والركوة، وهي وعاء مصنوع من الجلد، يُحمل فيه الماء في أثناء الحرب، كذلك توجد جُبَّة الأمير وهي مصنوعة من الكتَّان، وسيفه ولجام فرسه، ويقال: إن هذه المقتنيات عُثر عليها بعد معركة توشكي.
– السلطان علي دينار
هو سلطان دارفور، وحفيد السلطان محمد الفضل الذي عاش في المدة (1779-1839م)، وصار علي دينار سلطاناً على دارفور بعد السلطان أبي الخيرات بن السلطان إبراهيم عام 1889م، وفي هذه الأثناء كان الأمير عثمان جانو أميراً على دارفور، وبعد وفاته خلفه الأمير محمود ود أحمد الذي نقل إلى السلطان علي دينار استدعاء الخليفة عبدالله إياه إلى أم درمان؛ لتجديد البيعة، فحضر من دون تردُّد، وصار من المقرَّبين إلى الخليفة عبدالله، ثم التحق بجيش الكارة بقيادة الأمير إبراهيم الخليل، واشترك معه في عملياته الناجحة في جبال النوبة؛ مما قوَّى عُرى الصداقة بينهما.
وفي 3 سبتمبر عام 1898م، اشترك علي دينار مع جنود الراية الزرقاء في معركة كرري، وأوكل إليه الخليفة عبدالله من مقرّ قيادته في المعركة مهمَّة انتشال جثمان صديقه الأمير إبراهيم الخليل عندما سقط شهيداً في المعركة وسط وابل من الرصاص والقذائف؛ ليدفن بمنزله بأم درمان، وقد فعل علي دينار ذلك بشجاعة نادرة، وبعد رجوع الخليفة عبدالله من كرري إلى أم درمان، وقبل خروجه منها مهاجراً اجتمع مع صفوة رجاله؛ أمثال السيد المكي السيد إسماعيل الولي، والسلطان علي دينار، والسيد أبي القاسم هاشم، والشيخ محمود البدوي، وغيرهم من الأعيان والكبراء في دولة المهدية؛ إذ أعفاهم من الهجرة معه ليبقوا بأم درمان؛ للمحافظة على أهليهم وأُسَرهم، وطلب من السيد المكي والسلطان علي دينار أن يذهبا إلى غرب السودان: كردفان ودارفور؛ للمحافظة على أهليهما وديارهما. وذهب علي دينار إلى دارفور ومعه الأمير علي السنوسي؛ إذ استعاد ملك أجداده، وفي عام 1900م اعترفت الحكومة رسمياً بعلي دينار سلطاناً على دارفور، واتُّفِق معه على دفع الجزية للحكومة.
وكان السلطان علي دينار رجلاً مسلماً محبوباً، تميزت دارفور في عهده برغد العيش؛ حتى أطلق الناس على الفاشر عاصمة ملكه (الخير خنقها)، وكان السلطان علي دينار حريصاً على إقامة شعائر الإسلام ومتمسكاً بتعاليمه، وحاول الاستعمار تشويه صورته الإسلامية، فأشاعوا عنه العنف والظلم. وكان على اتصال بخليفة المسلمين في تركيا، والملك السنوسي في ليبيا، وكان يرسل محملاً سنوياً لكسوة الكعبة المشرفة، إضافة إلى حفر الآبار التي تعرف إلى هذا اليوم بـ (آبار علي) لسقاية الحجيج.
وأعلن السلطان علي دينار تأييده خليفة المسلمين في تركيا ضد الإنجليز وقوات الحلفاء، فأرسلت الحكومة المصرية البريطانية قوةً مسلحةً بقيادة اللواء كِلي هدلستون عام 1916م؛ لمحاربة السلطان علي دينار، فدارت المعركة الأخيرة التي استشهد فيها السلطان علي دينار بقرية كلمي جنوب زالنجي في 6 نوفمبر عام 1916م، وصارت دارفور منذ ذلك التاريخ تابعةً لسلطة الحكم الثنائي.
ومن مقتنياته المعروضة: طاقية أو طربوش مصنوع من الخيط متعدد الألوان، والمخلوفة (وهي مثل اللحاف المحشوّ توضع على سرج الحصان)، وراية الأمير رمضان بن السلطان علي دينار، ونحاس السلطان المسبوك من النحاس الخالص بتاريخ 1317هـ، وسَرْج السلطان وهو مزيّن ومكتوب بالنقش، وقاش حصان السلطان، وإبريق من النحاس كان يستعمل في الوضوء والشراب، وعَلَم أصفر وجد في معسكر السلطان علي دينار بعد استشهاده، وبعض النقود تسمى (رضينة) ضُربت في عهد السلطان علي دينار، وسرج جمل السلطان علي دينار.
– الأمير يعقوب (أخو الخليفة)
يعدّ الأمير يعقوب -شقيق الخليفة عبدالله- الرجل الثاني في الدولة؛ إذ كان يتولى منصب رئيس أركان جيش الخليفة، واحتفظ بسجلات كاملة لكل أفراد قواته التي تجاوزت عشرات الألوف من الأمراء والأفراد والسريَّات، وسجل كميات الذخائر والأسلحة، وأشرف على الترسانات المختلفة ومصانع البارود بكفاءة عالية، إضافة إلى تولّيه إمارة الراية الزرقاء التي تحتاج قيادتها إلى مجهود كبير، ويعود الفضل إليه في تحويل جيش المهدية إلى جيش نظامي، وعُرف عن الأمير يعقوب حبّه الشديد وإخلاصه لأخيه الخليفة عبدالله. ومن يدخل متحف بيت الخليفة يدرك محبة الخليفة أخاه الأمير يعقوب واحترامه إياه؛ إذ يوجد باب يفضي إلى حريم الخليفة مكتوب عليه: (لم يكن يدخل من هذا الباب غير الأمير يعقوب)، وكان الخليفة يستشيره في كل شيء، وكانا يجتمعان معاً في خلوة ليدبرا الأمر، ويتّخذا القرارات المهمّة والحاسمة التي تتصل بالدولة، وقد أطلق عليه الخليفة لقب (جراب الرأي).
ومن آثار الأمير يعقوب المعروضة: جبة مصنوعة من القطن الخالص الناصع البياض، وأخرى من القطن الملوَّن عليها طاقية تسمى (أم قرينات)، يلبسها جيش الأمير يعقوب.
– الأمير محمد عثمان أبو قرجة
ولد الأمير محمد بالقطينة الدناقلة، وكان من كبار المهدية الذين أيّدوها ووقفوا في صفها منذ انطلاقتها الأولى، وكان بطلاً من أبطال حصار الخرطوم؛ إذ قاد بداية الحصار قبل أن يتسلمه الأمير عبدالرحمن النجومي، وتولَّى إمارة شرق السودان عندما كان الأمير عثمان دقنة يتولى قيادة الجيش وشؤون الحرب، في عهد الخليفة عبدالله، ثم نقل إلى أم درمان عام 1890م، وعيّنه الخليفة أميراً على بربر، ومنها نقل إلى كسلا. وفي أثناء ثورة الأشراف نفاه الخليفة عبدالله إلى الرجاف، ثم عاد إلى بلده قرية أم غنيم، وتوفي في أم درمان عام 1916م. ومن مقتنيات الأمير أبو قرجة المعروضة: صورة فوتوغرافية للأمير مع سيرته الذاتية، وسيفه.
– الأمير عثمان أبو بكر دقنة
ولد الأمير عثمان في روابي البحر الأحمر عام 1840م، وهو ينتمي إلى أحد بطون قبيلة الهدندوة، وتلقّى دقنة تعليمه بالكُتَّاب فحفظ القرآن الكريم، وتفقَّه في الدين، ثم عمل في بداية حياته بالتجارة في سواكن، وتعرضت تجارته للمصادرة بعد أن اتُّهم بممارسة تجارة الرقيق، والتحق بالمهدي بعد انتصاره في معركة الأبيض، وعقد له الإمام المهدي الولاية على شرق السودان فخاض كثيراً من الحروب والمعارك الشرسة ضد قوات الاحتلال، واستطاع بقوته وعبقريته الحربية أن يقهر جيوش الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها في العالم في ذلك الحين. وأن يكسر المربع الذي استعصى على أكبر قائد حربي عرفته أوربا في تاريخها القديم والحديث؛ نابليون بونابرت الذي فشل في اختراق المربع في معركة (ووترلو) الشهيرة، فأذلّ الأمير دقنةُ الإمبراطوريةَ وجيشها الملكيَّ، وهزمهم شرَّ هزيمة.
وظل الأمير يجاهد الغزاة المحتلّين حتى نهاية عام 1889م، ثم أخذ نفوذه يتدهوّر وسط الاضطراب العام الذي وقع في شرق السودان، وازدياد الخلافات بين القبائل، فاضطرّ إلى الانحسار إلى أروما على نهر عطبرة، لكنه لم يستكين، فشارك في معركة النخيلة تحت قيادة محمود ود أحمد، وبعد الهزيمة جمع الأمير عثمان دقنة ما بقي من جنود محمود ود أحمد أحياء، وانتوى التوجّه بهم إلى الشرق لمواصلة الجهاد، لكن الخليفة أرسل إليه يطلب منه القدوم إلى أم درمان؛ للمشاركة في الموقعة الفاصلة في كرري. وبالفعل شارك الأمير في معركة كرري، وبعد الهزيمة نجا الأمير عثمان دقنة هذه المرة -أيضاً- وانسحب إلى الشرق، وكان ينتوي مواصلة الجهاد ضد هذه القوة الغاشمة، لكن الوشاية مكنت مأمور سواكن محمد بك أحمد من القبض عليه عام 1900م، ونُقل من سواكن إلى رشيد، ثم دمياط، ثم وادي حلفا، وظل في الأسر حتى تُوفِّي في 8 ديسمبر عام 1926م، ونُقل جثمانه إلى أركويت عام 1964م بعد غرق وادي حلفا إثر قيام السد العالي.
ومن معروضات الأمير دقنة: عدد من السُّبح، وصورة فوتوغرافية للأمير عقب اعتقاله، إضافةً إلى بعض الأسلحة التي كان الأمير يستعملها في حروبه ضد المحتلّين، ومنها الحراب، وآلة أخرى للحرب تسمى (الكوكاب)، وهي من الأسلحة التي كانت تستخدمها القبائل النيلية في صيد الأسماك، وقد سمّاها الأمير (الصيد العكر)، والعنقريب الذي كان يستعمله الأمير في جلوسه ورُقاده، ولوحة تسجِّل تاريخ المعارك التي خاضها، وصورة فوتوغرافية للأمير يونس الدكيم وهو أسير في معركة أم دبيكرات.
جناح أم كلثوم الخاص
هو جناح شخصيّ للخليفة، يُعرَف ببيت أم كلثوم؛ أشهر زوجات الخليفة عبدالله، وهي ابنة الإمام المهدي، ويوجد في هذا الجناح سرير به باب، قيل: إنه صناعة هندية، وعليه (برش) من السعف، وصورة فوتوغرافية للسيدة أم كلثوم، والجزء الأعلى من منبر الخليفة عبدالله، وعصاه، ونسخة من راتب الإمام المهدي، ومجموعة من السُّبح تخصّ الإمام المهدي، وقَدَح كبير مصنوع من الخشب، كان يستخدم في تقديم الطعام لمجموعة من الناس في المناسبات المختلفة، وقيل: إن هذا القَدَح كان هديةً من اللورد كرومر.
آثار الجنرال غوردون باشا
لعل اللافت للنظر في هذا الجناح الآثار الكثيرة التي تخصّ الجنرال غوردون موزَّعة على أماكن كثيرة من زوايا الجناح، والجنرال غوردون هو قائد إنجليزيّ من أصل أسكوتلنديّ مشهور في تاريخ المستعمرات البريطانية، وشارك في حروب كثيرة في أوربا والصين في خدمة الإمبراطورية البريطانية، ودخل في خدمة الحكومة المصرية، وصار مديراً على الاستوائية عام 1874م، وعمل على توسيع نفوذ الخِدِيو، لكنه استقال عام 1877م، ثم عاد حاكماً عاماً على السودان، ومكلَّفاً بمحاربة تجارة الرقيق، ثم استقال مرةً أخرى عام 1879م، وعُيِّن حاكماً عاماً على السودان عام 1884م إبان الثورة المهدية، وكُلِّف بإنقاذ الحاميات المصرية في السودان، وإخلاء السودان، لكنه انحرف عن مهمَّته، وعزم على محاربة ثوار المهدية، وظلّ يواجه المشكلات إلى أن حُوصِر في الخرطوم، وقتل في أثناء تحريرها في 26 يناير عام 1885م، ولم تفلح الحملة التي أرسلت لإنقاذه؛ إذ وصلت بعد يومين من المعركة.
وعند استعراض آثار غوردون بالمتحف نجد صوراً متعددة له في أوضاع مختلفة؛ منها صور له عندما عاد من الصين التي كانت مستعمرةً بريطانيةً، ونماذج لعملات ورقية كثيرة من فئات مختلفة، طُبعت في مصر، واستُعملت في السودان في أثناء حصار الأنصار لغوردون في الخرطوم، ونجد بعض الميداليات؛ مثل: ميدالية نجمة غوردون التي صُنعت في الخرطوم وأُهديت للقس قوين، ونجد كشف تبرعات من جوهنستان وما جاورها من قرى أسكتلندية عام 1898م؛ لبناء كلية غوردون التذكارية (جامعة الخرطوم حالياً)، وكانت هذه الكلية قد اقيمت تخليداً لذكرى الجنرال غوردون الذي يعدّه الإنجليز قديساً بعد مقتله على أيدي الأنصار، أهداها اللورد كتشنر إلى المتحف. ومن الآثار الخاصة بغوردون -أيضاً- جُبَّة، قيل: إنها كانت جبةً تنكريةً كان الجنرال يستعملها في بعض الأوقات عند الحاجة، وغطاء واقٍ لليدين كان يستعمله غوردون، إضافةً إلى إبريق من الجلد، وبيانو كان الجنرال يعزف عليه.
المطبعة الحجرية
تقع المطبعة الحجرية داخل بيت الأمانة، ويبدو أن الإدارة المصرية قد استوردت هذه المطبعة الحجرية الصغيرة بعد فتح الخرطوم؛ لتلبية متطلبات الإدارة، وافتتاح مدرسة الخرطوم، وطُبعت بوساطتها منشورات الحكومة ضد دعوة المهدي الأولى، ونقود أو أذونات، وعندما حررت مدينة الخرطوم وبنيت مدينة أم درمان، نُقلت هذه المطبعة إلى بيت الأمانة بأم درمان، وخُصص لها فريق يقوم بإدارتها وتشغيلها، على رأسه أمين المطبعة ووكيلها مختار محمود بادي، وكان لها كاتب رئيس هو إبراهيم المطبعجي، إضافةً إلى عمال آخرين، وقسم للتجليد يرأسه الجاك السيوفي، أما إعداد النصوص ومراجعة المسودات والإشراف على طباعتها، فهو من مسؤولية أبي القاسم أحمد هاشم، ويعاونه المدثر إبراهيم الحجاز، وأحمد علي قاضي الإسلام، وكانت إدارتها تتبع بيت المال، وطبعت بوساطة هذه المطبعة منشورات الإمام المهدي وراتبه، ورسائل الخليفة عبدالله ومنشوراته وإنذاراته إلى كل من الخِدِيوي بمصر، والسلطان العثماني بالآستانة، والملكة فيكتوريا ملكة إنجلترا، وأهل شنقيط ونيجيريا ومراكش، إضافةً إلى الرسائل التي أرسلت إلى السنوسي بليبيا، وإلى الحجاز، وطُبع -أيضاً- كثير من الرسائل التي أرسلها الخليفة عبدالله إلى مناطق كثيرة من السودان، وتناول فيها شتى أمور الدولة.
وأدَّت هذه المطبعة دوراً كبيراً ومؤثِّراً، فقد كانت وسيلةً ثقافيةً وإعلاميةً للاستنفار، فمِثلما كانت تُعبَّأ الجيوش، وتُرسَل إلى مناطق العمليات للجهاد، كذلك المنشورات كانت تُطبَع وتُوزَّع على كل الجبهات، فلا يقلّ تأثيرها عن تأثير الجيوش، وكانت الوسيلة الوحيدة للإعلام الرسميّ، ونشر التقارير الرسمية، ووسيلة الاتصال بين القادة والمراكز والقاعدة العريضة، وأدّت المطبعة -أيضاً- دوراً مهماً في الحياة الفكرية والثقافية، وأغنت الدعوة الجهادية لدولة المهدية بالكثير من الأفكار والأسس النظرية.
ونجد في هذا الجناح مجموعةً كبيرةً من الآثار المعروضة التي تؤرِّخ للدولة المهدية؛ منها: سرج لجمل يعرف بـ(أبو سنامين)، وكان هذا النوع من الجمال قد استورده الجنرال غوردون باشا من الصين؛ ليرسل بوساطتها الرسائلَ من بربر إلى سواكن، ونجد مصحفاً عُثر عليه في جيب الخليفة بعد معركة الجديد، ويوجد في هذه الغرفة راتب الإمام المهدي، إلى جانب لوحة كبيرة للخليفة عبدالله وهو يمتطي صهوة حصانه؛ لقيادة جيوش المهدية، ومكان اللوحة بوابة عبدالقيوم، وصورة فوتوغرافية للأمير عثمان شيخ الدين وهو أسير في معركة أم دبيكرات، وبعض الصور الفوتوغرافية لبعض أمراء المهدية. ولعل أعجب ما نشاهده في هذا المتحف هو الكأس المصنوعة من قرن الخرتيت -وحيد القرن- التي قيل عنها: إنها تُبطل تأثير السمّ إذا وُضِع فيها، وقيل: إن الخليفة كان يشرب من هذه الكأس!!!
هذا هو المنزل الذي كانت تدار منه الدولة المهدية التي امتدّت حدودها من دارفور غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، ومن بحر الغزال جنوباً إلى أقصى الشمال، وحكمت السودان أربع عشرة سنة هي مدة حكم الخليفة عبدالله بن محمد؛ إذ امتدت مدة حكمه من وفاة المهدي في 22 يونيو عام 1885م إلى استشهاده في أم دبيكرات في 24 نوفمبر عام 1899م، لتُطْوى بذلك صفحة مضيئة من صفحات البطولة والجهاد في تاريخ السودان.