برغم أن الحراك الشعبي السوداني يشارف في بدايات العام الجديد لحظات إنهائه حقبة نظام الإنقاذ كما تنبئ كل المؤشرات إلا أن هناك حربا تمور داخل السلطة الآن، كما أفادت مصادر، وتسريبات، وتداعيات الأحداث. وللبدء فهناك نقاط لا بد من ذكرها:
أولها الظهور المفاجئ للفريق الفاتح عروة خلف الرئيس في مدني بعد موكب المهنيين الأول. وهو الذي ظل بعيدا عن شغل المناصب الحكومية واكتفى لأكثر من عقد من الزمان برئاسة شركة زين للاتصالات. وكما يقول مقربون من النظام إن البشير يحتفظ بصداقة قوية مع عروة، والذي هو أيضا صديق حميم لصلاح قوش. ولهذا يثق البشير في عروة تماما ضمن قلة قليلة ممن لم ينتموا نظاميا للحركة الإسلامية، وكثيرا ما يلتقيان عند جلسات السمر، فوقا عن أن طريق مهندس نقل الفلاشا للقصر دائماً يجد التسهيل.
وبما أن لعروة علاقات استخباراتية، وخبرة في المجال، مع جهات دولية، وإقليمية، فقد زعمت تقارير أن هناك ضغطا أميركيا عبر حوار مع قادة النظام. فهل يا ترى كان عروة حاضرا إذا صحت رواية الضغط الأميركي الذي لم يذكر فحواه؟. أحد مصادري قال إن عروة يكن عداء خفيا للإسلاميين، وربما من هذه الزاوية ربما يخطط خلف المشهد مع البشير وقوش لضرب الإسلاميين حين يحمى الوطيس، بصورة شبيهة لما حدث بينهم ونميري في أيام مايو الأخيرة، بحجة أنهم هم الذين اخترقوا مايو، ثم تاجروا بالدِين، وخربوا الاقتصاد.
وبالتالي يتيح سيناريو ضرب الإسلاميين للبشير استخدام آخر كروته لكسب ود الشعب الغاضب، وهو حل الحكومة، وإعلان مجلس عسكري يعيد بناء الدولة على أسس خالية من تأثير المرجعية الإسلاموية التي طبقها الترابي. ولكن يظل المحك هو مدى تأثير هذه الخطوة على الشارع، والذي يحمل البشير نفسه، والإخوان المسلمين السودانيين، جناح الجبهة الإسلامية القومية سابقا، أسباب تدهور الدولة.
ثالوث البشير – عروة – قوش، يقول عقيد متقاعد، “فرصته أقوى لتعزيز غايته إزاء بدائل الإسلاميين في الانقضاض عليه”، لكون “أن رئيس هيئة الأركان الفريق كمال عبد المعروف من أقرباء البشير فضلا أن حميدتي يتبع للبشير أيضا..”. ولكن المصدر عاد فقال إن سيناريو فريق الرئيس قد يستبقه الإسلاميون بالتضحية بالبشير نفسه عبر مغامرين من الجيش والذين سيطروا على الكلية الحربية منذ سيطرة النظام، وذلك حتى يتم تفادي سيناريو البشير – قوش – عروة الذي قد يجعل مستقبل الإسلاميين أشبه بحالة نظرائهم في مصر.
ومن المؤشرات لتدبيرات الإسلاميين قيادة غازي صلاح الدين ومحمد عثمان رزق تنظيم جديد خرج عن النظام برغم أن تنظيم “الإصلاح الآن” حتى قبل أسبوع وقع على الوثيقة الوطنية التي منحت البشير الفرصة للترشيح للرئاسة بشكل مفتوح.
وقد تفاجأ المتابعون أن الجزيرة غطت المؤتمر الصحفي، بل منحته زمنا كبيرا في البث. وهي القناة التي لم تتح هذا الامتياز للتيارات السياسية الساعية لإسقاط النظام. ومن شروط قاعدة التغطية الإعلامية فإن التركيز يوجه لصناع الحدث بدرجة أكبر من هوامشه. ولكن هكذا هي الجزيرة التي لديها أجنداتها التي لم تعد مخفية. ويأتي هذا التطور في ظل المنافسة الحامية في تغطية الحراك السوداني بين قناتي العربية وأسكاي نيوز من جهة والجزيرة من الجهة الأخرى.
وكما نعلم أن الجزيرة المعروفة بدعمها لتيارات الإخوان ركزت هجومها على البشير وحده من خلال توظيف أقلام محمد منصور، فيصل القاسم، ومحمد كريشان. ذلك في وقت تابعنا تركيز قناة العربية على تحميل المسؤولية على النظام برمته، وهو ما يعني استهداف الإسلاميين، وتلك خطة يقودها محمد بن سلمان ومحمد بن راشد في المنطقة.
ويجب التذكير هنا أن هناك دولة، وفقا لتصريحات قادة في المؤتمر الوطني، عرضت على البشير ضرب الإسلاميين في مقابل إعانته نظامه. وقريب من موقف الجزيرة هو موقف قنوات وأقلام إسلاموية عربية ركزت الجرم على البشير دون النظام. ولو تابعنا الإعلامي الإخواني معتز مطر من خلال قناة الشرق فقد ظل يضرب على وتر العسكر، ويحمل البشير وحده كل وزر المرحلة. والسؤال الأساسي هو هل هناك تنسيق يجري في الخفاء بين الإسلاميين ونظرائهم في المنطقة لتحميل البشير فحسب “بقجة” المشكلة مع خاله، وظهورهم من ثم بمظهر الأبرياء كما حاول رزق وغازي تسويق فكرة انهما كانا من مؤيدي الفرعون، ولكنهما لم يفسدا كما قال رزق !
المؤشر الآخر أن خطوة غازي بعون مبارك الفاضل ترافقت مع اتهام لغازي بتحريض الجيش للتدخل كما جاء في الصحف. والسؤال هل يمثل هذا الموقف إسلاميي المؤتمر الشعبي أيضا خصوصا بعد إعلان السنوسي صيامه عن الكلام، ومسرحية مرض على الحاج، وخروجه من البلاد حتى تسهل له حرية الحركة، والتنسيق مع جهات تابعة للتنظيم الدولي للإسلاميين، على أن تتيح له وضعيته في الخارج البعد عن مراقبة قوش والجيش.
ونذكر أن علي الحاج كان قد أجاد بدهاء دور المنسق الخارجي للحركة الإسلامية. فهو قد خرج من السودان قبل انقلاب ١٩٨٩ بأشهر قليلة لتحقيق مهمة محددة، ولم يؤذن له بالعودة إلا بعد مضي العام تقريبا. ولعل صمت قادة المؤتمر الشعبي، وموقفهم المذبذب الآن، حول ما يجري في البلاد ربما يعزز خطوة المكيدة الإسلاموية. وقد ركز كمال عمر أيضا هجومه على المؤتمر الوطني، والذي يرى كثير من القيادات التاريخية الإخوان أنه لا يمثل الحركة الإسلامية، بل يَرَوْن انها حلت بعد الانقلاب. الغريب أن كمال عمر بدا مدافعا عن الحراك، وأكد دعمهم الشارع في ظل عدم تسمية قيادة مؤقتة للحزب لتضطلع بمهامها في هذا الظرف الصعب الذي تواجهه البلاد. وعلى فكرة بدا أمر الشعبي كأنه لا يعنيه من قريب أو بعيد أزمة البلاد برغم أن للحزب قيادات مفوهة في الشأن الوطني من لدن بشير آدم رحمة، وعمار السجاد، وأبو بكر عبد الرازق، وقد كان هؤلاء الأعلى صوتا، ولكنهم فضلوا الآن الصمت كما هو حال نافع، وعلي عثمان، وعوض الجاز، برغم ما يشاع بأنهما يخوضون الاجتماعات السرية في القصر لقمع التظاهرات.
لاحظنا أيضا أن قناة السودان مررت حوارا مع شباب انتقد بعضهم النظام، ولم تتم منتجة حديث أحد الشباب الذي تركته المذيعة يَصْب جام غضبه على الحكومة. أما قناة النيل الأزرق فقدمت موادا داعمة للحراك الثوري، واستعانت الأخيرة بنشيد حسن خليفة العطبراوي “أنا لن أحيد” بما له من رمزية في المقاومة السياسية، كما أن أحد مقدميها ظهر في الهواء مباشرة مدافعا عن متظاهري عطبرة. والقناتان كما نعلم يشرف عليهما إسلاميان هما حسن فضل المولى وَعَبَد الماجد هارون.
سألت أحد الذين كانوا مقربين جدا من الرئيس، وشغل مركزا مرموقا، حول قدرة الحركة الإسلامية على التضحية بالبشير فقال “…صعب التكهن مآلات الاحداث، والتي يحسمها قوة تيار الشارع…لكن لا بد من تسوية للانتقال كما هو معهود عبر التاريخ..الأطراف الموجودة في السلطة تتربص على بعضها بعضا..ولكن هناك إسلاميين يَرَوْن أن البشير رهن سلامة حياته بالسودان، والحركة الإسلامية أيضا، والأخيرة وفرت له المجال للحكم..ولكن كوادر الدولة ملكها، والإسلاميون بارعون في التآمر، ويدركون كيفية الحفاظ على وجودهم، وممتلكاتهم، ومكتسباتهم التي راكموها، وفِي لحظة ما سيضطرون الى إجراء جراحة قيصرية”.
أيا تكن تلك الجراحة فإن الواقع الإقليمية أيضا يسارع الخطى أكثر من الدولي، والذي ركلت التظاهرات – بغير هوادة – فكرته عن “الهبوط الناعم” بينما لا يزال الثوار السودانيون يحلقون بمظلاتهم للهبوط على القصر لمحاصرته حتى يعيدوا التاريخ للمرة الثانية. فالمجتمع الإقليمي الذي تتقاسم تأثيره على مجريات الأوضاع بقيادة السعودية والإمارات من جهة، وقطر من جهة أخرى، في ظل الصمت المصري، بدا عند الأيام الاولى مرتبكا حتى أن ضاحي خلفان غرد لصالح البشير متجاهلا حراك الشارع السوداني، ولاحقا صمت. ولكن التنافس العربي في التغطية الكثيفة لهذا الحراك أضمر تنافسا للأجندة بصياغة جديدة حتى يرث كل طرف نظاما جديدا لا يكون في صالح البشير، أو الإسلاميين.
ولعل الولايات المتحدة، والأوروبيين، اكتفوا بتصريحات حذرة نشرتها وسائل الإعلام، ولم تتجاوز حث النظام على إتاحة الفرصة للمتظاهرين للتعبير عن مظلمتهم، على ألا تستخدم الحكومة القوة الباطشة، وطالبت كذلك جهات غربية بضرورة التحقيق حول قتل المتظاهرين.
على صعيد الثوار السودانيين فإن هناك يقظة ملحوظة. وقد تحوطوا لكل سيناريوهات صراع السلطة الذي من المؤكد استبانته أكثر فأكثر وظهوره للعلن كلما تأكدت استمرارية، وفاعلية، الحراك الشعبي لتحقيق مراميه. ونعتقد أن الجيل الجديد المتسلح بالوعي السياسي، وغالب الشعب المكتوي بنيران فشل الدولة لن يرضى بالالتفاف على أهداف الثورة، والتي من ضمنها تهديم دولة الإسلام السياسي، وإقامة نظام جديد أساسه الحرية، والديموقراطية، والعدالة، والمساواة، والازدهار الاقتصادي.
الشئ المهم الذي ينبغي أن يعيه أطراف الصراع في السلطة أن التظاهرات التي قادها الشباب المسيسون، وغير المسيسيين، بدعم الشعب السوداني المعارض، يمتلكون الإمكانية، والتصميم، والارادة، هذه المرة لمواصلة التظاهرة حتى تتم الاستجابة للمطالب. ولن ينتظروا – في ما خص تهديم كيان الإنقاذ ومحاسبة مجرميه – حكومة انتقالية قد تلتف على أهداف روتها دماء الشهداء. مهما كان شكل الانتقال السياسي من النظام المجرم إلى النظام العادل فإننا على قناعة تامة أن شباب الثورة هم الذين سيقررون مستقبل البلاد مهما تكالبت المؤامرات المحلية، والإقليمية، والدولية، لتفجير إرادة السودانيين في التحرر من الإفك السياسي، والديني الذي أفرزته التجربة الإخوانية التي انتهت إلى طفيلية رأسمالية.