على مر أسابيع والسودان يحتل العناوين الأولى في الإعلام، بسبب المظاهرات التي تجوب شوارع مدنه، وتعلن عن تفجر الأزمة التي يواجهها منذ زمن ليس بالقصير. ويشرع الإعلام الدولي في تذكيرنا بأن في السودان فقراً يصل إلى أربعين في المائة من السكان، وتضخماً يصل إلى سبعين في المائة، وأن معدل البطالة يصل إلى عشرين في المائة! ويجيب المسؤولون السودانيون بأن ما ترونه من مظاهرات، ما هو إلا مؤامرة خارجية، وأن الدول الكبرى لها «ثأر مُبيت» ضد السودان!
ما يحدث في السودان ليس غريباً ولا جديداً، ولا وسائل الوصول إلى حلول له مخفية في عالم الغيب. إنه ببساطة خلل في إدارة السودان للموارد المتاحة؛ لأنها تدار بالآيديولوجيا بدلاً من شروط إدارة الدولة الحديثة! هذه هي مأساة السودان.
من قبيل الطرفة، يُردد كثيراً أن في السودان خمسين مليون بقرة (ثالث دولة في امتلاك البقر) ومع ذلك فهناك شح في منتجات الألبان، بمقارنة ببلد مثل هولندا، فيه فقط خمسة ملايين بقرة، ويقوم بتصدير مشتقات الحليب، تلك مقارنة مفجعة، إن صح التعبير، فالسودان بلد غني بالموارد إلى درجة أن بعض الدراسات الاقتصادية ترى أنه لو قرر السودان أن يزرع البرسيم فقط في الأراضي المنتجة له، لأصبح دخله يساوي على الأقل الدخل النفطي لمجموع دول الخليج! بلاد تتوفر لها أرض خصبة شاسعة، ومياه وفيرة (في حين أن العالم يشتكي من شح المياه)، مع 130 مليون رأس من الأغنام (سابع دولة في العالم في الثروة الحيوانية) وثروة سمكية وفيرة في السواحل، وتحوي أرض السودان فوق ذلك أكبر احتياطي في العالم من النحاس.
الخلل هو في إدارة الموارد؛ حيث استبدل السودان بالإدارة الواقعية والعلمية عدداً من الشعارات، التي لم تكتفِ بالبقاء في الحدود السودانية؛ بل تهيأ لها في فترة أن تتصدر الإسلام الحركي الدولي.
التجربة السودانية لها خواصها، وعند محاولة خروجها من بعض تلك الخواص تعثرت، وما شهدناه في الأسبوعين الماضيين ما هو إلا مظاهر هذا التعثر. متى خرج السودان من تلك الخواص؟ عندما ألمَّ مأزق الحكم بالسيد جعفر النميري في بداية ثمانينات القرن الماضي، فقرر الاستعانة بالمرحوم حسن الترابي، وتبنى ما عرف بقوانين سبتمبر (أيلول) 1983، من أجل تحويل السودان إلى منصة للإسلام الحركي، وإعلان نفسه خليفة للمسلمين! بعد قرون من إسلامه الصوفي، وحيث راقت للأخير (الترابي) «لعبة الانقلابات»، فكرَّت انقلابات عسكرية تحت غطاء الإسلام الحركي، من أجل تحقيق ذلك الشعار الغامض (العودة إلى الماضي).
صاحبت المشروع شهية إلى التدخل الخارجي، فجاء كارلوس، وجاء بن لادن، وغيرهما، لجعل الخرطوم نقطة انطلاق لتحويل السلطة المرجعية إلى سلطة قاهرة! فخرج السودان عن خواص المجتمع السوداني، ودخل في سلسلة من الأزمات أكبر من قدراته، ومن وقتها وحتى اليوم لم يعد السودان إلى خصائصه السياسية الأصلية، وهو ما زال يتعثر. السودان كبلد – كما أسلفت – ليس فقيراً بالمعني التقني للفقر، هو فقير لأن طائفة سياسية تعاقبت على حكمه هربت إلى الماضي على أنه حل لمشكلات الحاضر، وتجاوزت التعددية إلى الأحادية، واستغنى عن أهل الخبرة بأهل الولاء.
الحقيقة أن الوقوع في أسطورة الماضي يعمي عن رؤية الحاضر. ونسيت هذه المجموعات المتعاقبة على الحكم، التي اعتمدت على الأسطورة، أن جوهر الكائنات البشرية هو قدرتها على اختبار كيف تعيش! الشعب السوداني، كغيره من شعوب الأرض، متأثر بتيارات العولمة، وتواق إلى الحرية، كما أنه مجتمع تعددي بطبعه، لا يقبل الأحادية. ممارسات الإسلام الحركي المسودنة أدخلت السودان في حرب مع جنوبه، وتم ارتكاب أخطاء ضخمة في السعي للواحدية الآيديولوجية، مهدت نتائجها لتبرير انفصال جنوب السودان، وظل الحكم في الخرطوم في غيبة كبرى عن حقائق العصر، إلى درجة أن من كان يدخل مساجد في الخرطوم في تلك الفترة (خاصة يوم الجمعة) يسمع بأذنيه الخطيب وهو يصف «الملائكة تحارب مع الجنود السودانيين في الجنوب»!
الغفلة عن آليات التحديث التي أصبحت معروفة اليوم، والتي بموجبها تتغير المجتمعات، أدخلت السودان إلى بر التيه، الذي أوقع النخبة السودانية في مأزق طويل، وولجت البلاد نفقاً استنزفت معه طاقات الشعب السوداني وموارده.
انقسام السودان وبالتالي أزماته، في جزء ليس يسير منها هو ذلك المشروع الماضوي. وعندما تُكتب سنوات الصراع المسلح في السودان، جنوبه وأطرافه، سوف يظهر أن كماً من الأساطير وُظف في ذلك الصراع، وهي أساطير لا يقبلها عقل. لقد دخل السودان ذلك الصراع بعقل منهك، يحمل كل مظاهر الإعاقة السياسية، فخسر نصفه، وأشعل حروباً في نصفه المتبقي، وما زال بعيداً عن إبصار الحقائق.
في السودان نحو خمس وثلاثين جامعة (بعضها جامعات بالاسم فقط) ولكن من الست جامعات الكبرى، ثلاث فقط بها كليات لتعليم الزراعة! الثروة الرئيسية في البلاد، والأكثر غرابة أن بعضها به «كليات بترول» والبترول أصبح مع الجنوبيين!
العجب أن السيرة مستمرة، فقد لجأت النخبة السودانية لأساطير أخرى من جديد لتفسير ما يحدث اليوم من غضب شعبي، على أنه «مؤامرة خارجية» تريد بالسودان شراً! وأن المطلوب من الجماهير السودانية الصبر والتصدي لتلك المؤامرة! ربما ذاك تجسيد حي لكون البعض يبصر الأشياء ولا يراها! أو للحاجة لعدم الرؤية!
اليوم ليست هناك خلطة سحرية لإدارة المجتمعات بنجاح، فتلك الخلطة معروفة ومسطرة في أكثر من جزء من عالمنا. تغيير المجتمعات إلى الأفضل ممكن، وأول الشروط الاستناد إلى مُثل عليا حياتية (وليست أسطورية)، خلفها إرادة حقيقية لتحقيق الخير العام، وما يتبعها من قضاء تام على الفساد، وإدارة علمية حصيفة للفضاء العام، واستثمار في رأس مال بشري منتج، وقوانين حديثة وعادلة، وتبادل سلمي للسلطة، من بين أمور أخرى يعرفها أي مشتغل في الشأن السياسي العام!
اللجوء إلى العنف، ولبس ملابس «الأسود والثعالب» في الوقت نفسه، ولعب أدوار أكبر من قدرة البلد وطاقته، هي حلول وقتية، قد تكون مسكنة، قد تؤخر الاحتجاجات، ولكن لا توصلها إلى مرافئ آمنة.
هناك جواب اليوم لمسألة إدارة الدولة، وهي العقلانية، وليست الشعارات، والركون إلى إدارة الموارد دون آيديولوجيا، والتحليق في ضباب الأسطورة، أو الارتكان إلى ترويج نظرية المؤامرة. كل ذلك ليس من أحجار بناء الدولة الحديثة.
قد ينجو السودان اليوم من موجة المظاهرات الحالية، وقد تستعاض بأشكال أخرى من التعبير الاحتجاجي، إلا أن الحلول «الأمنية» و«الشعاراتية» لن تأخذ السودان إلى بر الأمان؛ بل سيظل السودان في هذه الريبة حتى يأتي من يفرق بوضوح بين إدارة الدولة الحديثة، وبين استغلال المقدسات لأهداف سياسية!
آخر الكلام: الاستبداد يجرد المجتمع من دفاعاته الذاتية!