ظل الإسلاميون، في العالم الإسلامي، يبشرون بمشروعهم للحكم، منذ بدايات القرن العشرين. ومنذ تلك الفترة، تعددت الجماعات المنضوية تحت لواء الإسلاميين. وانتشرت، هذه الجماعات، في مختلف البلدان الإسلامية، والعربية، في مساحةٍ، جغرافيةٍ، شاسعةٍ، تمتد، من جنوب شرقي آسيا، إلى بلدان المغرب العربي، بما في ذلك، كامل منظومة دول الشرق الأوسط. وإذا استثنينا تجربة الإسلاميين المصريين، في الحكم، على عهد الرئيس مرسي، التي كانت عامًا واحدا، فإن نظام إسلاميي السودان، هو النظام الأوحد، الذي بقي في الحكم، لفترة بالغة الطول، حكم فيها البلاد، رئيسٌ واحد. فبعد خمسة أشهر، (يونيو 2019)، يكمل نظام الإسلاميين في السودان، عامه الثلاثين. وهذا العام الثلاثين، هو الذي اندلعت فيه، هذه الثورة السودانية، الجارية الآن، التي تهدف إلى اقتلاعه؛ جملةً، وتفصيلا.
مع تراجع مشروع اليسار العربي، الذي ارتبط، إلى حدٍّ كبيرٍ، بالكتلةِ الشيوعيةِ، وأخذ في الانهيار، بالتزامن، مع انهيارها، تحول الرهان، وسط دوائرَ عربيةٍ، عديدة، إلى الإسلاميين، بوصفهم الحصان الرابح، في سباق النهوض والتغيير. غير أن الإسلاميين، فيما عكسته أطروحاتهم، مبهمة المعالم، وتجربتهم القصيرة في مصر، إضافةً إلى تجربتهم الطويلة، في السودان، أثبتوا أنهم لا يستندون على مشروعٍ، واضح المعالم. فالشعارية، وتأجيج العاطفة الدينية، والنهج الشعبوي، في استثارة الحماس الديني، وسط البسطاء، غلبت على المشروع، منذ بداياته الأولى؛ لدى حسن البنا، مرورًا بأبي الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي، ثم، بسيد قطب، ومن ماثلهم. ولا تزال هذه السمات هي المسيطرة، على المناخ الفكري الإخواني، إلى اليوم. ولذلك، لا غرابة، إذن، أنْ حَكَمَ الإسلاميون، السودانَ، لثلاثين عامًا، ولم يجد الشعب السوداني، حتى هذه اللحظة، إجابةً شافيةً؛ لا نظريةً، ولا عمليةً، حول السبب الذي دفعهم لكي ينقلبوا، على النظام الديمقراطي، في عام 1989.
لكي يحدِّث قبيلٌ من الساسة نفسه، بالانقلاب على نظام حكمٍ ديمقراطي، مهما كانت سوءاته، لابد أن يكون، ذلك القبيل مالكًا لمشروعٍ، مقنعٍ، محدد المعالم، يملك من يقفون خلفه، الرؤية، والوسائل، والأدوات، والخبرة، التي تجعلهم يُحدثون من الطفرات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ما يقضي، تمامًا، على التساؤل المشروع: ما الذي جاء بكم إلى الحكم؟
لكن، بقي الإسلاميون، السودانيون، في الحكم لثلاثين عامًا، ولم يستطيعوا، حتى، أن يغيروا شخص الرئيس، دع عنك، أن يحدثوا تحوُّلاً ديمقراطيًا، أو تنميةً، أو تحديثًا، أو نهضةً علميةً، وثقافية. بل، على العكس من ذلك، فعلى أيديهم انقسم القطر، إلى قطرين. كما، أفقروا مواطنيه، حدَّ الإدقاع، وأغرقوا البلاد في الديون، الباهظة، المكبلة، وفي الحروب، العبثية. وخرَّبوا سمعتها، وأذلوها، وعزلوها عن الحاضر الكوكبي، الذي يتدفق؛ سيولةً، وطلاقةً، وحيوية. باختصار شديد، أوصلوا كل شيءٍ، في السودان، إلى حافة الانهيار الشامل، والفناء.
تقدم تجربة الإسلاميين في السودان، فرصةً ذهبيةً للقيام ببعض المراجعات الجوهرية، في الرهان على تيار الإسلام السياسي، والزعم بأنه القوة الصاعدة. والجهات التي ينبغي أن تضطلع بهذه المراجعات، هي الجهات التي تقف علنًا، أو لواذًا، وراء هذا المشروع، وتعمل في التبشير به وتقديم الدعم له؛ من حكومات، ومفكرين، وأكاديميين، وناشطين سياسيين، ومنصاتٍ إعلامية. فقد أثبتت التجربة السودانية أن مشروع الإسلام السياسي، في جملته، ليس أكثر من مجرد شعار. أخطر من ذلك، أثبتت تجربة الإسلاميين السودانيين، أن مشروعهم ليس مشروعًا حداثيًا، وإنما هو مشروعٌ سلفيٌّ، بامتياز، تحدد أهدافه، وأولوياته، عقولٌ إخوانيةٌ، كلاسيكية. ولسوف أقوم، فيما يلي، من فقراتٍ، في هذا المقال بجرد بعض ما يثبت سلفية مشروع الإسلاميين السودانيين. وفي تقديري، أن هذه السلفية، القُحَّة، وعدم وضوح البرنامج، والأجندة، تمثل قاسمًا مشتركًا، بين مختلف تيارات الإسلام السياسي، في المنطقة العربية.
أطلق إسلاميو السودان ما جاءوا به، عبر انقلابهم العسكري، الذي نفذوه، في عام 1989، ضد الحكم الديمقراطي القائم، آنذاك، اسم، (المشروع الحضاري). لكنْ، لم ير السودانيون من هذا المشروع الحضاري، سوى الإكثار من بناء المساجد، في المؤسسات الحكومية، وفي الأحياء، وإنشاء جمعيات تلاوة القرآن الكريم، وخلق مناخٍ عامٍّ من الإرهاب الديني. ونشر لغةٍ متقعِّرةٍ، فارغةٍ، مشحونةٍ بالتكبير، والتهليل، والبسملة، والحوقلة، قلَّما يواطئ فيها القلبُ اللسان. وهي ذات اللغة التي ظل يتخندق خلفها الرئيس عمر البشير، كلما أطبقت على عنقه، اخفاقات نظامه. انخرط المشروع، منذ بدئه، برعايةٍ، مباشرةٍ، من عرابه حسن الترابي، في تجييش الشباب للقتال في الجنوب. مع شحنٍ إعلاميٍّ دينيٍّ صارخٍ، حوَّلوا به حرب الجنوب، إلى حربٍ دينية، بين مؤمنين وكفار. وانتهى الأمر، بخسارةِ الجنوب، ووصول الدولة السودانية الأم، إلى الإفلاس الكامل.
حين أمسك الإسلاميون بمقاليد الحكم في السودان، حاولوا، أول ما حاولوا، فصل الرجال عن النساء في مجتمع لم يعرف، في تاريخه، فصلاً حادًّا بين الرجال والنساء. فقد قاموا بتخصيص أبواب، ومقاعد، في المركبات العامة، للرجال، لوحدهم، وللنساء، لوحدهن. لكنَّ ذلك، لم يلق استجابةً، من أحد، فأهملوا الأمر. في نفس تلك الفترة، حاولوا منع الرقص المختلط في حفلات الأعراس، وفشلوا، أيضا. اتجهوا، في مسارٍ آخر، إلى التضييق على الفنون، محاولين صبها في الوجهة التعبوية، التي تخدم الأيديولوجيا الإخوانية، على غرار النمطين الدعائيين؛ الفاشي، والشيوعي. فقاموا بمحاربة الكُتَّاب، والأدباء، والفنانين الأحرار. وفتحوا المجال لخامدي المواهب، ليسيطروا، تحت حماية الدولة، ورعايتها، على الساحة الإبداعية، والإعلامية، السودانية. وانعكس كل ذلك، سلبًا، على فئة الشباب، الذين وجدوا أنفسهم، في نهاية المطاف، مغتربين، داخل وطنهم، وجالسين على الرصيف. وهاهم هؤلاء الشباب، يمثلون اليوم، طاقة الدفع الرئيسة، الساعية لتقويض هذا النظام الاستبدادي، الاستحواذي، الفاشل.
بصورةٍ عامة، لم يختلف الإنقاذيون، عندما أمسكوا بمقاليد الأمور، في السودان، اختلافًا كبيرًا، عن جماعة طالبان. وكلنا يذكر كيف أنهم منعوا الأهالي، عندما بداية التلفزة الفضائية، في تسعينات القرن الماضي، من امتلاك الأطباق اللاقطة. كما منعوا الإذاعة من ترديد الأغاني التي يرد في نصوصها ذكر الخمر، أو الدَّن، أو الكَرْم، أو الكأس، أو القُبْلَة، أو نحو ذلك. وتحول تلفزيون الدولة، على أيديهم، إلى منصةٍ للوعظ الديني. وتحولت المناهج المدرسية إلى أداة لتلقين النشء الأفكار السلفية، وغرس كراهية غير المسلمين، بل، وكراهية بعض الجماعات الإسلامية داخل السودان. كما قادهم رهاب السلفيين المعهود، من المرأة، إلى محاولة منع النساء من العمل في محطات الوقود، والفنادق، والمطاعم. ولكنهم، فشلوا في ذلك، أيضا. عمومًا، كسبت الثقافة السودانية، عبر الثلاثين عامًا الماضية، كل معركةٍ أشعلها الإسلاميون، ضدها. وها هي الثقافة السودانية، تحتشد، الآن، بكل زخمها، وعنفوانها، محاولةً توجيه الضربة القاضية، إلى مشروعهم، السلفي، الاستبدادي، الإقصائي، الفوقي.
أيضًا، خلق الإنقاذيون شرطة لتطبيق ما أسموه (قانون النظام العام)، ومُنحت تلك الشرطة، سلطةً تقديريةً، بها يحدد الشرطي، الزي اللائق، وغير اللائق، بالنسبة للمرأة حين تكون في المجال العام. واستنادًا على تلك السلطة التقديرية، التي مُنحت لأفراد الشرطة، سيقت كثيرٌ من النساء، إلى (محاكم النظام العام)، بتهمة الزي الفاضح. وجرى في هذه المحاكم، قروسطية الطابع، جلدهن. وسُمح للمارة بمشاهدتهن وهن يُجلدن، ويتلوَّيْن من الألم، تحت لسع السياط، في مشاهدَ صادمةٍ، دلت على مجانبةٍ، غير مألوفة، للتقاليد السودانية، وللمروءة، والنخوة، والشهامة، والحس الإنساني السليم. والسودانيون، عمومًا، ينفرون من العنف بالنساء، ويعدونه وضاعةً، وخسةً، وقلةَ مروءة. لقد أصبح شعور السودانيين بحكم الإنقاذيين، شبيها، جدًا، بشعور الوقوع، تحت نير استعمارٍ ثقافيًّ، أجنبي، بل وأفدح.
بسبب استهدافهم النساء، لم يكن غريبًا، أن كانت النساء في طليعة هذه الهبة العارمة، وبهذه الأعداد الكبيرة، اللافتة. فهذه الثورة، ظلت تعتمل في نفوس السودانيين، منذ مقدم نظام الانقاذ. ولم تكن الأزمات المعيشية الخانقة، الأخيرة، سوى الشرارة التي أشعلت فتيلها. فالثورة، في حقيقتها، ثورةٌ من أجل الحرية، واحترام الذات، والكرامة الشخصية، إضافةً إلى إعادة الاعتبار لمنظومة القيم السودانية، الفاضلة، المتوارثة، التي تعرضت للضعضعة، والإهانة، بمحاولة فرضِ نمطٍ، وافدٍ، من التدين المظهري، الزائف. فهي، ثورةٌ من أجل كرامة الثقافات السودانية، التي استُهدِفت بالمحو. وهي ثورةٌ ضد الصلف، والاستبداد، والغلو، الذي ظن أصحابه، أن في وسعهم محو ثقافة شعبٍ، عمرها خمسة آلاف عام، محوًا كاملًا، واستزراع ثقافةٍ جديدةٍ، مكانها.
لربما يقول بعض الإسلاميين السودانيين، الذين خاب أملهم في مشروعهم، منذ فترة، والذين قفزوا، مؤخرًا، من مركب نظام الإنقاذ الغارقة، إن علة نظامهم في السودان، سببها اختطاف العسكر للتجربة، وإبعادها عن مقاصدها. غير أن هذا الدفع، دفعٌ جدُّ واه. فحسن الترابي كان مهووسًا بالهندسة الثقافية، والاجتماعية، وإعادة صياغة المجتمع، وإبدال طيف الثقافات السودانية الواسع، المتنوع، بثقافة دينيةٍ، إخوانيةٍ، أحادية. بل، إن سياسة (التمكين) للإسلاميين، إنما هدفت، منذ البداية، لوضع الإسلاميين، فوق الجميع. فقد نتج من تلك السياسة، إعادةٌ لرسم الهرم الاجتماعي السوداني، المتوارث، وهدم قيمه الثقافية، العريقة. فنشأت طبقةٌ من السادة، قليلي العدد، أصبحت تستخدم المال، والأذرع الأمنية الباطشة، والخطاب الديني الأحادي، للتحكم في مصائر الأغلبية الغالبة، التي تحولت إلى معوزين، مستعبدين.
خلاصة القول: من الأجدى للجهات التي تقف وراء مشروع الإسلاميين، أن تحوِّل الأموال الطائلة، التي ظلت تنفقها عليه، إلى وجهةٍ جديدة، تستهدف إحداث ثورةٍ جذريةٍ، للإصلاح الديني. والتعريف بما هو الدستور، وما هي الديمقراطية، وما هو التنوع، وما هي الحقوق الأساسية، وما هي أهمية كل أولئك، للحكم الرشيد. فذلك، أنفع، وآمن، وأكثر اختصارًا للوقت، من مجرد الدفع بالإسلاميين، إلى مقاعد الحكم، بلا أفكارٍ، وبلا مشروع نهضويٍّ محددِ الأجندة، واضح المعالم. فحين يصل الإسلاميون، بحالهم التي نراها عليهم اليوم، إلى السلطة، فإنهم سيضيعون على الشعوب، عقودًا غاليةً، عزيزةً، وسيفسدون، وسيهدرون الموارد، ويبددون الطاقات، ويشردون الكفاءات. وسيخلقون تشوهات في بنية الوعي الجمعي، يصعب علاجها. وعمومًا، سيعيدون عقارب الساعة إلى الوراء، مثلما فعلوا في السودان، عبر الثلاثين عامًا الماضية، فأصبح في ذيل أقطار العالم، في كل شيء.