ليس من رأى كمن سمع، وأنا رأيت التظاهرات، وعايشت نبض أبطالها، وحاولت خلال إجازتي القصيرة الوقوف على المزاج العام للشارع السوداني، الذي تمثله الخرطوم خير تمثيل، بوصفها عاصمة البلاد، التي يمتزج فيها أبناء الوطن جميعاً، ولهذا أطلقت شعار “الخرطوم تجمعنا” حين شرعنا مع نفر كريم في تبني نادي الخرطوم، في إطار الرابطة الرياضية للسودانيين بالخارج “الصالحية”، من أجل تأكيد أن هذه العاصمة بمدنها الثلاث (الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان) ينصهر فيها جميع السودانيين بكل ألوان طيفهم.
والشيء اللافت لكل من يزور السودان ممن خبروه من قبل
أن هناك روحاً جديدة لا تتطلب أن تكون في قلب تظاهرة لتشعر بها، ولكنها روح مبثوثة
في كل خطوة وركن، وفي داخل أغلب السودانيين الذين يمكن أن يلتقيهم المرء في
الشارع، والحلة، والسوق، والمقهى، وفي بيوت العزاء، وفي الأعراس، وفي أي مناسبة
يمكن أن تجمعك بشريحة من شرائح المجتمع.
“تسقط بس” كلمتان تترددان على الألسن في
مواطن الجد، وحتى في الهزل تحملان شحنة كبيرة من المشاعر الرافضة للنظام.
وأصبحت التظاهرات التي يقودها تجمُّع المهنيين
السودانيين قوة دفع ينتظرها السودانيون الشرفاء الذين ضاقت بهم السبل، وأصبحوا
يتطلعون إلى غد الخلاص بأمل وتفاؤل، بفضل الشباب الذي يفتح صدره لرصاص القوات
الأمنية الباطشة، وللقنابل المسيلة للدموع، ولا يأبه بأنواع التعذيب التي تفضحها
صور المعتقلين، ولعل صورة الصيدلي المعتقل الذي ظل حاملاً علم الوطن بينما يرميه
الأمن معتقلاً في ظهر إحدى عرباته تعبر عن مدى الاستخفاف بالعذاب في سبيل الوطن،
ومدى العزم الذي يعتمل في صدر هذا الشباب الغض، الذي تخيل كثيرون أنه مستلب،
وخانع، وراضٍ بتوافه الأمور.
هذا الشباب الرافض للقهر ليس كله من أهل الحاجة
والفاقة، ولكن بينهم منعَّمين، ومن أُسرٍ ثرية، لكنهم يرفضون اختطاف الوطن من قبل
فئة شرهة، لا قيم لها، تستأثر بخيرات البلاد، وفي الوقت نفسه تذيق العباد أنواعاً
من المذلة، وتنظر إليهم من علٍ، حتى لم تترك لهم غير “لحس الكوع”، ووصفهم
بـ”الشحاتين”، وهم الذين تعلموا من المنح المجانية التي تجود بها
المنظمات الخيرية، واستباحوا أراضي الوطن، ولم يتركوا حتى ميادين يتنفس فيها
الأطفال والشباب، بل هرّبوا المليارات التي استجدوها باسم شعبنا، ووضعوها في
حساباتهم الخاصة.
أصبحت التظاهرات ساحة للتعبير عن وحدة هدف شرفاء الوطن
في إزالة النظام، واستعادة الوطن، والسير به إلى حيث يستحق، مواكباً للعصر،
ومتطلعاً إلى العلا، وامتطاء صدر النجوم.
الشباب الذي تخيلنا أنه فقد أفضل ما في الإنسان
السوداني وهو القيم، وجدنا أن هذه القيم تسكنه، وهذا الحراك الشعبي أصبح يكشف عن
أصالة المعدن في كل آن.
ولا يمكن
إحصاء المواقف التي تبرز هذه الحقيقة، فأن يمدّ الشباب يد العون للعسكر الذين
يواجهونه بالرصاص، ويقيل عثرة من يقع منهم، ويقدم الماء ليروي عطشهم، فهذا يمثل
قمة الأخلاق والروح الإنسانية.
وبعد هذا يصبح طبيعياً أن يحمي هذا الشباب أرزاق
البسطاء من الباعة الجائلين، وأن يعمل على تأمين الكنداكات، وأن يمنع أي خروج عن
السلمية.
أصبح طبيعياً أن ينال الشاب أو الشابة أو الصبي أو
الصبية رضا الوالدين قبل الخروج في التظاهر، وهو أو هي يضعان أسوأ الاحتمالات،
بإيمان راسخ بأن ما يقومان به عمل نبيل يستحق التضحية بالنفس.
أم توقظ ابنتها وهي مرعوبة من أن يكون سوء لحق بابنها
الذي خرج في المظاهرات، فترد عليها البنت بروح وطنية مفعمة: يا أمي ابنك واحد من
الشباب، وهو ليس أفضل من الشهداء الذين مضوا من أجل الوطن، والمفروض أن أكون معه
بدلاً من أن أنام.
قابلت طبيبتين شابتين تتبنيان مع زملائهما مبادرة
لعلاج فئة تشعران بخبراتهما البسيطة أنها في حاجة إلى الاهتمام في زمن طال الإهمال
كل فئات المجتمع، وتقومان بجهودهما الذاتية في تلمس الوسائل التي تترجم مبادرتهما
للاهتمام بالأطفال الخدج إلى واقع، ومثل هذه المبادرة أصبحت طابعاً في المجتمع،
وتجد دعم الخيرين، وهم كثر، ولا يحجبهم فساد المفسدين.
ليس عجباً أن تجد طبيباً أو مهندساً يعمل سائقاً في
برنامج “ترحال”، لأنه يستنكف أن يمد يده إلى أبيه أو أمه، وهو في انتظار
وظيفة يعرف أنها سلفاً محتكرة لذوي النفوذ والسلطان، وإذا صادف إحداها جاء راتبها
زهيداً لا يناسب ما تتطلبه من جهد.
نسيت جوالي في سيارة أحدهم، وحاولت التوصل إليه، إلا
أن عدم حفظي الأرقام حال دون ذلك، ونهض شاب من موظفي المطار بجهد البحث عن خيط
يربطني بالسائق، مستخدماً جواله الخاص، فطمأنته بثقة: أكيد سوف يسلمه ناس البيت،
لأنني ركبت من أمام العمارة وركبت الطائرة مطمئناً، ومع وصولي إلى مصر اتصلت
بالأسرة، لأجد ما قلته محققاً.
وفي اليوم
نفسه، حدثت واقعة مماثلة لإحدى بناتنا، وكان خوفها من اطلاع السائق على صورها
الخاصة، ولكن لم تمض سوى 15 دقيقة، إلا ووجدت الشاب السائق قادماً إليها بجوالها،
ومثل هذه الحوادث معاشة يومياً، وأبطالها كثر من سائقي “الركشة”، الذين
يرفضون أي مكافأة لأمانتهم.
وهذا يعني ذلك الراعي الذي وجد أضواء كثيفة في
السعودية كان محظوظاً، لأن هذا السلوك يمارسه شبابنا بطبعه، وهو ما يطمئن أنه بخير،
على الرغم مما يحيط به من فساد الحاكمين.
إن هذا الحراك أظهر أجمل ما في شعبنا، وأكد تلاحم
السودانيين في داخل الوطن وخارجه، وأن السوداني مهما ناء عن الوطن، وتباعدت بينهما
المسافات يظل مسكوناً بحبه، ومشدوداً إليه، ومهموماً بقضاياه.
وأظهر الحراك أن شبابنا في الخارج مبدع بلا حدود في كل
المجالات، وقد وظّف مواهبه وإبداعاته في خدمة قضيته، فكان للتشكيليين حضورهم القوي
في إبداع لوحات تستحق أن ترصد وتجمع لتكون وثيقة جمالية لهذه الملحمة الوطنية، كما
أسهم ويساهم الإعلاميون على اختلاف تخصصاتهم في بث الوعي، ونقل نبض الشارع إلى
العالم بأسره، وهكذا كل المهنيين من أطباء وصيادلة وقانونيين وأساتذة جامعات
ومفكرين يمارسون دورهم ويوظفون قدراتهم من أجل أن يصل الحراك إلى مبتغاه.
إن ثورة الشعب السوداني هذه المرة مترعة بالأحداث
والمواقف التي تعبِّر عن قدرات هائلة كامنة في الشعب السوداني لم تستغلّ بعد.
وتكشف الثورة عن بُشريات كثيرة، أهمها أن السودان
يمتلك طاقة هائلة تتمثل في قدراته البشرية، وفي صدق انتماء معظم السودانيين إلى
وطنهم سواء كانوا في الداخل أم الخارج، وهم قادرون على تسخير ما حبا الله به بلدهم
من خيرات وفيرة في التنمية والنهوض، ليستمتعوا جميعاً بوطنٍ خيِّر ديمقراطي، لا
مجال فيه للظلم، والعنصرية، وشره السلطة، والإقصاء.