ما يزال الإسلاميون داخل السلطة، وخارجها، يحاولون خداع أنفسهم، أو الناس. فالمؤتمر الشعبي ببساطة لم يلتقط إشارات الشباب الثائر، ويحاول تخريج مبادرة للحفاظ على بنية المكتسبات الإسلاموية. وربما التقط الشعبي هتافات صاخبة ضد الكيزان، ولكنه يتذاكى لخداع الرأي العام. ولعل هذه مشكلة عويصة تتعلق بالصدق مع الشعب لم يقيض الله للإسلاميين مجالا للانفكاك منها. ذلك رغم توفر العبر على كل قارعة طريق سوداني. فَهَم يفترضون الغباء في كل لحظة عند الشعب، وبالتالي يتحايلون عليه، ولا يتصورون أنه ذكي بالقدر اللائق، ويحتاج إلى قدر من الاحترام لوعيه.
أما على مستوى الإسلاميين المهمشين، والثائرين غبنا ضد هيمنة زملائهم – لا ضد المقدمات التي هدمت المشروع الحضاري – فالأمر فادح. فالدكتور التيجاني عبد القادر أستاذ العلوم السياسية استخدم ذات عقلية البشير. فالاثنان اجتهدا بغير هدى لاصطناع كبش فداء. فلو أن البشير يرمي اللوم على تطبيقات النظام العام كسبب للأزمة، فإن التيجاني يرمي اللوم عليه هو، ومعاونيه فقط، وليس على أصول فكر الحركة الإسلامية. بل حاول الأستاذ الجامعي الإشارة إلى أن البشير ليس عضوا أصيلا ضمن جماعته.
لقد لاحظنا في الفترة الماضية أن إعلاميي قناة الجزيرة أمثال أحمد منصور، وفيصل القاسم، وقريشان، وفوزي بشرى، يؤكدون على مهاجمة البشير مع غض الطرف عن أصول فكرة الإخوان المسلمين التي دمرت إمكانيات البلاد. وهو ذَا اخانا التيجاني الذي يذهب مكرها مذهب الإخوان المسلمين الدوليين المدعوم من قطر. وهذا المذهب تقوم استراتيجيته على التضحية بالبشير ككبش فداء للحركة الإسلامية، و لا بأس من رميه في مزبلة التاريخ مع عدد قليل من الإسلاميين لتبرئة الإسلام السياسي من مأساة السودان.
والتيجاني يذهب أكثر من ذلك ليرى أن البشير سعى لتصنيع شريحة اجتماعية تخلقت في الثلاثين عاما بينما تقول الوقائع إن غالبية هذه الحاضنة من الجبهجية المتبنين لفكر الإخوان المسلمين. والسؤال حقا هل أتاح الإسلاميون لشريحة غيرهم الثراء الحرام؟ ألم يرثوا جهاز الدولة، وهم وحدهم الذين هيمنوا على القطاع الخاص؟ هل كانوا كريمين بهذه الدرجة مع هذه “الشريحة”، ومقابل ماذا؟
صحيح أن كل ما قاله التيجاني عن البشير يجانبه الصواب. ولكن الدكتور تفادى الاعتراف بأن البشير ليس فردا، وإنما مؤسسة كاملة الدسم. فالذين فصلوا له الاستبداد فصلوه على مقاسات الحركة الإسلامية أولا. وهي الحركة التي بدأت حكمها بالبطش، لا الرحمة، كما يدرك التيجاني الذي هو أقدر الناس معرفة عند المقاربة بين الاستبداد الذي نظر له الكواكبي وبين نظرية العقد الاجتماعي لجون لوك. ويعلم أن كل خطوة مشاها البشير في الثلاثين عاما الماضية كتبت بمباركة من غالبية قادة الحركة الإسلامية، والتيجاني نفسه لم يعترض على استبداد البشير إلا بعد عشرة أعوام تقريبا، وفِي هذه السنين نفذ البشير كل ما رسم له من نظريات أسلمة المجتمع والدولة معا.
فالذي سن الدستور ليس هو البشير، والذي شرع للاقتصاد ليس هو البشير، والذي قنّن سياسة “المؤتمر العربي – الاسلامي” ليس هو البشير، والذي أسس، وطبق، قوانين الأمن ليس هو البشير. أما نهج قضاته، ووزراء عدله، فأجازته جيوب الحل والعقد للحركة الإسلامية التي حلت محل الدولة. لم يكن البشير منظرا حتى يمارس هذا التقعيد الدستوري والتنفيذي للدولة، فدوره كان دور فرد إسلاموي يساهم بنصيبه ضمن الآلاف من الكوادر القيادية؟
ولعل التيجاني يعلم أن قوائم الصالح العام كانت بمباركة الإسلاميين قبل انشقاقهم. وكان التيجاني حينها نافذا، ويوظف تأهيله العلمي ليفلسف أفكارا حول ما ينبغي أن يكون عليه تمكين الحكم إسلاميا، ولَم ينبس ببنت شفة حول الظلم الذي وقع على عائلي الأسر، ولَم يخرج لنا بنظرية حول مسؤولية الحاكم المسلم عن رعاياه المفصولين المسلمين، وغير المسلمين.
ولعل التيجاني كان مباركا بالصمت حين تم تمرير الدبلوماسية الرسالية التي تعادي روسيا وأمريكا في آن واحد ولَم يعترض بمقال يتيم، وهو العالم السياسي الذي يعرف مغبة توجيه العداء للمعسكرين في آن واحد على معاش المجتمع. الأسوأ من ذلك أن التيجاني ربما سمع بتطهير القوات المسلحة، وتقصير الدخول للكلية الحربية على الطلبة الإسلاميين، ولكنه سكت ابتهاجا، ومرضاة للمولى، عز وجل.
إن البشير عبر كل هذه السياسات التي اضطلعت بها الحركة الإسلامية كان أراجوزا لها. ينفذ ما تريده، إذ يستمد أرضيته من هذا الجيش الجرار من الإسلاميين الذين يشكلون الآن الدولة العميقة، ويعاونهم شغيلة تحت الطلب. وهل كان بإمكان البشير وحده أن يهبط بالسودان إلى أسفل سافلين إن لم تحمه جوقة من مئات الوزراء الإسلاميين، والآلاف المؤلفة من كوادر الحركة التاريخيين، والذين ورثوا جهاز الدولة، وما ثاروا عليه حتى يستعيدوا ما يسمى فاعلية الحركة الاسلامية.
يكاد أحدنا يتصور أن الإسلاميين، وهم بهذا التكتيك المخادع، سيواجهون دائما مشكلة عضوية في تأملهم العقلاني عند أي استدبار سياسي. ذلك كونهم يراهنون دائماً على الغش السياسي حتى بعد أن أوردهم موارد هذا الهلاك الأخلاقي، والذي من خلاله ضاعت فرص استقرار، ونماء البلاد.
إن التيجاني في مقاله المعنون “فليحمل الرئيس عصاه ويرحل” كان حريصا أن يغشنا – لا أن ينورنا – بأن الأمر كله معلق على البشير فحسب. ولعل المتابع لكتاباته يرى أنه يحاول دائماً ترسيخ فشل المشروع الحضاري على الدائرة الضيقة حول البشير، ولكنه يتجاوز التعميق في التحليل السياسي الذي يدرسه لطلبته، ويشرف عبره على أجيال جديدة تقدم أطروحات في الماجستير والدكتوراة حول هذا العلم الحيوي.
فأستاذ مثله ترجو منه الأجيال الفهم المستنير، والأكاديميا الحريصة على التفكير النقدي. ولهذا كان مطلوبا منه أن يشرح لنا ركائز المحيط الفكري الذي يتحرك فيه الطاغية البشير، وكيف أن رجلا بهذا التهور كان هو خيار الحركة الإسلامية الأوحد. وعندئذ كان العشم في شجاعة الإسلاميين التصحيحيين لتحمل مسؤوليتهم في الإتيان به بدلا من التملص منه.
إن قول كثير من الإسلاميين بأن الحركة الإسلامية تم حلها، وتعطلت فاعليتها بعد الانقلاب يمثل نفاقا عظيما، وغشا حامضا. فما الذي يحوج الإسلاميين لهيكلية الحركة إذا استطاعوا جميعا الذوبان في هياكل الدولة، وصاروا يرسمون موجهاتها، ويطبقون سياساتهم على “دائرة المليم”. ألم يستعنوا بوعاء الدولة الواسع الثري بديلا لوعائهم الحزبي الضيق؟. والسؤال الآخر هو إلى أي مدى كان الحصاد كبيرا لقاعدة الحركة..أهو عندما كانوا خارج السلطة أما بعدها؟ ثم لماذا يحرصون إذن على ما يسمونه مكتسبات الحركة الإسلامية في التمكين إذا هي فعلا كانت معطلة، وغير فاعلة طوال هذه السنوات؟!
وما الذي اكتسبته عضوية الحركة ماديا بعد حلها وصيرورتها إلى دولة في مقارنة بعضوية حزب الأمة والاتحادي والشيوعي مثلا؟
هنا تكون المقارنة. ولكن أن يتشبث الإسلاميون بخداع مكرر عن غياب فاعلية حركتهم الهيكلية – وفِي ذات الوقت يتهيكلون شخوصا فاعلين داخل اجهزة الدولة بهذه الأغلبية الساحقة – فهذا يسمى عوار التدين نفسه. فليحمل الإسلاميون مشروعهم الاستبدادي السمات وليرحلوا.