الخرطوم بحري (المحطة الوسطى) في الموعد تماماً، ليس موعد الثورة فقط، بل موعد وطن الغد أيضاً، حيث أن الواحدة ظهرا تعني الواحدة ظهرا، لا تتقدم ثانية ولا تتأخر
ورغم كل (حشد الظلام) تنطلق الزغاريد وتُعبأ الحناجر بالهتاف. بنات وأبناء الوطن لا يأبهون بالبنادق وزخات الرصاص وأبخرة الغاز.
وبري وودنوباوي والشجرة والحتانة وشمبات ومدني وعطبرة وبورتسودان والعباسية والحاج يوسف في الموعد تماماً
وبالأمس، يعانق الهلالابي المريخابي داخل القلعة الحمراء، ويهتفان سويا لوطن المريخ والهلال
والتظاهرات الليلية تستمر، وترهق (الأجهزة) جداً
الثورة تحافظ على سلميتها رغم كل الدماء، لا عنف مضاد، لا تخريب، لا مس بالممتلكات
والسودانيون في لاهاي ولندن وبرلين وواشنطن يقاومون البرد بعلم الوطن ودفئه ويخرجون في مسيرات حاشدة يلتفت لها العالم
ودوريات الأمن تلاحق حافلة أطفال صغار هتفوا: تسقط بس، في تأكيد على السقوط
البرلمان يضطر للتراجع عن جلسة مخصصة لتعديلات تتيح للفرعون الترشح لفترة جديدة
عاصمة عربية تستضيف ملتقى يشي بالخطوات المقبلة في اتجاه دعم (جماعتهم) في السودان
و(صغارهم) يؤمرون فينفذون محاولة ساذجة للتشكيك في (التجمع)، ويغفلون عن دم الشهيد أحمد الخير
و(الصادقون) يتلقون الرصاص ويتراصون جنبا إلى جانب الشعب السوداني دون حسابات ربح أو خسارة
وكادر من حزب الأمة القومي ينشر نقلا عن حزب البعث، وكادرة من المؤتمر السوداني تنقل عن أخرى من الحزب الشيوعي، ومستقل ينقل عن ذلك وتلك
وفي المعتقل يغني (الجميع) حماسة الأنصار وأناشيد الشيوعيين وقصائد الاتحاديين: إنه الوطن فوق كل شىء
هو في القلب والروح
من قال إن الحلم ممنوع؟ شابٌ يفوز بجائزة دولية في مجال الأفلام الوثائقية ويكاد يطفر الدمع من عينيه وهو يذكر السودان
ونجوم المريخ يتمثلون نضالات بنات الوطن وبنيه
فضل أيوب يغني – هذه المرة بفرح نادر -: يا الخرطوم العندي جمالك
ويقصون لك عن حكايات العشق في التظاهرات، من وراء الكمامات: زفاف عاشقين سينجبان للوطن مستقبله
ولا حادثة تحرش واحدة تسجّل ضد ثائر
فالسودان يستعيد قيمه وتقاليده وعراقته
مُذ مائدة الشمس في كرمة وليس نهاية بموائد رمضان في الكاملين والحلة الجديدة وهيا وبارا والجزيرة أبا وسنجة والجنينة والدلنج
(تسقط بس) تضحي بألسنة الجميع وبكل لغاتهم
وهذا هو وطن التنوع والتعدد ينهض. وعلم واحد يوحد الجميع، نشيد واحد يردده كل الناس، عشق واحد نتنفسه
السودان – الآن – جد مختلف، تفديه فتاة وحيدة تصبح موكبا في قريتها. يفديه من يعتلي خزان مياه ليرفع علمه. يفديه ضابط في الجيش يوضع قيد الحبس لأنه حر، وجندي في الشرطة يرفض إيذاء شعبه، وشهيد يقف وحيدا أمام آلة البطش
يفديه هؤلاء اللواتي والذين يتعاهدون ويتعاهدون على الحرية أيا كان الثمن
وابنة أخي الجميلة تحدثني كل يوم عن خروجها، وعن اعتقال أختها، وعن حلمها بأن أصحبها لملعب الهلال
وبنت خالتي الجميلة تقص لي عن زملائها السابقين في العمل بإكبار، محمد فاروق وخالد عمر يوسف
وصديق العمر يحكي لي عن آثار الضرب على جسد أخته الحبيبة
الثورة تدخل كل بيت، كل شبر من الأرض
أسرتي التي كانت تخشى علىّ الاعتقالات والتعذيب والموت قبل عقدين تتحول بكاملها تقريبا إلى أسرة ثائرة
وابن خالي الحبيب يدعو للاحتجاجات في ألمانيا، وابنة خالتي تسألني: ماذا أفعل من أجل الحرية؟
وابني الصغير الذي لم أره – يقولون لي – إنه يصر على أن تصطحبه احدى اختيه للشارع ليشاهد التظاهرات، ويتقافز طربا ل: تسقط بس
ومجموعتان أسريتان في واتس آب تتحولان بالكامل لدعم الثورة
ورباح الجميلة العظيمة سليلة العم الحبيب (أمين التوم) هي والصادق الإعيسر وأحمد صديق ومحمد الزين عديلة يذكرونني بأيام الجمر: أيام كانت الثورة حلما
وصوت في البعيد يغني: (نحن ولاد كفاحك)
إنها (٦٧) يوما من ثورة رابعة لن يعود السودان أبدا بعدها كما كان
السودانيون – اليوم – يلقنون العالم دروسا جديدة في الوطنية والسلمية والكفاح
لكنه ليس منبتا، هو تراث عثمان دقنة وعلي عبداللطيف ورابحة الكنانية، تراث القرشي والمك نمر وعبدالقادر ود حبوبة وجوزيف قرنق، تراث الإمام الهادي ومحمود محمد طه والكدرو ومحمد عثمان حامد كرار، تاريخ بابكر النور وعبدالخالق وخليل إبراهيم وبولاد وسليم والتاية، إنه تاريخ مندي بت السلطان عجبنا وعلي دينار وتهارقا