ظل الأخوان المسلمون تنظيم غريب علي الواقع الوطنى السوداني وعلى القيم والموروثات الوطنية منذ البداية في اربعينات القرن العشرين والي يومنا هذا. كما ان تجربة الثلاثين عام الماضية من حكمهم المنفرد للسودان قد أكدت بما لا يدع أي مجال للشك ان تنظيمات الاخوان المسلمين كلها وبمختلف تسمياتها هي تنظيمات غريبة على الواقع السوداني وليس لها أي توافق او تشابه مع المجتمع ولا تحمل اي قيمة من قيم وموروثات الشعب السوداني الإنسانية الفريدة والمييزة له من بين الأمم، وهذا امرا كان متوقعا لتنظيمات منبتها غير سودانى وأفكارها ومناهجها في العمل لم تنشأ لحاجة وطنية سودانية داخلية وما كانت لإصلاح واقع سودانى وانما كانت نتاج تجارب شعوب أخرى والمعالجة واقع اجتماعى لا علاقة له بالمجتمع السودانى، ولذلك كانوا شواذا ولم يتغير شذوذهم في الممارسات وفي التعامل مع الآخر الوطني وبقوا غرباء في تصرفاتهم وسلوكهم العام وفي تعاملهم مع الدولة السودانية ومع موارد الوطن التي بددوها بلا تردد وبلا أدنى مسئولية.
حكم الأخوان المسلمون الوطن السودان كالأجانب، وتعاملوا مع المواطن السودانى غض النظر عن عمله ومهنته وموقعه الاجتماعي والسياسى والدينى، كما يتعامل المستعمر المحتل مع من يحتلهم، وبصورة أشبه بحكم التمييز العنصري وتعامله مع المواطن الافريقي الأصيل في جنوب أفريقيا والذي امتد من العام ١٩٤٨ الي ١٩٩٠م، ومازالت ذاكرة الشعب السودانى تمتلئ بالتجارب القاسية مع هذه المجموعة والتي كانت تتطابق في سلوك أفرادها كما تتطابق العصابات الاجرامية.
توجس الشعب السودانى ومازال يتوجس من هذه الجماعة ومن فكرها خيفة، منذ دخولها الأول الي السودان مع الطلاب السودانيين الذين درسوا في مصر في اربعينات القرن العشرين، وظل التنظيم الأخوانى معزولا منبوذا من قبل الشعب إلى أن رأسهم الدكتور الترابى من خلال خدعة تم فيها عزل القيادة التاريخية للتنظيم، واستمر التنظيم بعذ ذلك أسيرا لمكائد الترابى الي ان توفى فى ٥ مارس ٢٠١٦م.
الترابى كان يعلم بعزلة الاخوان داخل المجتمع السوداني ويعلم عدم قبول كل مكونات الشعب السودانى الجماهيرى لهم، ولذلك حاول من خلال حيل كثيرة ومتواصلة ان يتغلغل داخل النسيج الوطني وبدأ بالقوى الحديثة وخاصة الطلاب ودخل إليهم من أبواب عديدة استفز فيها غرورهم وتميزهم بالعلم واغراهم بالسلطة والمال وحاول ابهارهم بخبث أنه الأذكي والأكثر تمييزا عن سائر السياسيين السودانيين. وحتى يتثنى له التمكن منهم، عمد على عزلهم عن المجتمع السودانى واعاد صياغتهم من جديد.
استطاع الترابى وتمكن من الانفراد بقيادة التنظيم ومن إعادة صياغة كوادر التنظيم، حتى اي ملاحظ نبيه يستطيع بسهولة رؤية أثر الترابى في تشكيل شخوص الكوادر وفي نوع الخطاب وحتى السلوك الشخصي للكوادر، واستمر التنظيم أسيرا لجينات الترابى ونفسيته التي كانت تعانى من الاحساس بالدونية امام واقع وطنى متماسك ورافض له ولمشروعه، ولعل هذه الحقيقة هي التي كان لها تأثير كبير في تشكيل منهجه في التعامل مع المكونات الوطنية المختلفة، وحددت سلوكه الذي تميز بالازدراء والاستعلاء الزائف والرفض لكل ما هو وطنى ومجتمعى. وهو الذي أدى الي الشذوذ والتعامل غير المبرر لكوادر التنظيم مع المواطن ومع الدولة وانتهي بها الي ما انتهى اليه من ركام الفشل الذي يثور عليه كل الشعب اليوم.
وحتى يمكن الترابى لمشروعه السياسى ويوفر له الامكانات، رفض الخروج مع القوى المعارضة بعد تنكر النميري لاتفاق المصالحة الوطنية وفضل بخبث الاستمرار يدا يمنى للنميرى داخل نظام مايو، مستثمرا فى ضعف نظام مايو في سنواته الأخيرة بعد المصالحة الوطنية عندما كان يواجه نظام مايو تحديات اقتصادية كبيرة وعزلة كاملة من كل القوى الوطنية. نجح الترابى في استغلال موارد الدولة وأجواء الحكم الدكتاتوري العازل للاخرين من القوي السياسية، واستطاع العمل بحرية داخل المدارس الثانوية وفي الجامعات وتغلغل داخل الخدمة العامة وفي دواوين الدولة وحتى في داخل المؤسسات النظامية كالأمن والجيش، وواصل ذلك الدور أثناء الديمقراطية الثالثة كما ذكر في قناة الجزيرة.
وظل احساس الترابى بالعزلة وعدم القبول له كشخص ولمشروعه السياسى من قبل الشعب السودانى يسيطر على شخصية الترابى وعلى تفكيره ويشكل نوع تعامله مع الواقع الوطنى ومع القوى السياسية الوطنية المختلفة، وتجذر ذلك أكثر بعد سقوط الدعاوى في دائرة الصحافة جبرة والذى تم في اطار تحالف وطنى عريض ضم كل القوي السياسية.
كان الترابى يعلم أن ما ناله من مقاعد في الجمعية التأسيسية إنما كان نتيجة خدعة ومؤامرة إدارها بواسطة كوادره في الدولة ايام مايو. وقد تأكد ذلك للشعب فيما بعد ومن خلال قرائن الأحوال والمعلومات والحقائق اثناء عودة تنظيم الاخوان للحكم المفرد فيما سمى بالانقاذ، والتى شهدت الحضور اللافت والدعم للنظام من قبل سوار الذهب، والسكوت الطويل للدكتور الجزولي دفع الله عن جرائم الانقاذ وسوء حكمها. فضلا عن كونهما كانا يمثلان رأسا النظام اثناء الفترة الانتقالية وانهما الذين هيئا فرص الفوز للإخوان في كل دوائر الخريجين بعد الانتفاضة.
كان الترابى يعلم أن تنظيم الاخوان لم ينجح في الاندماج في الواقع الوطني، وكان يدرك أن المجتمع السوداني لم يتقبلهم هو كشخص وحزبه كمشروع سياسى، وظل تنظيم الاخوان تنظيما صفويا معزولا وظلت كوادرة معزولة وتعاني الغربة. هذه الحقيقة هى التى دعت الترابى للادعاء في مرحلة معينة بعد أن توفرت له الكوادر والامكانات اللازمة، انه خرج من التنظيم العالمي للإخوان، وأنه أصبح تنظيما سودانيا خالصا ولا علاقة له بالتنظيم العالمي، لكنه في الحقيقة إنما كان يخادع ويمارس صفته الأصيلة، الا وهي الخداع، وهي صفة أصيلة في الترابى، ميزت سلوكه ومسيرته السياسية منذ اول يوم ظهر فيه عند أكتوبر 1964، الي ان فارق الحياة. والحقيقة التي تثبتها الوقائع، أنه كان وظل وفيا للتنظيم العالمي وتشكيلاته المختلفة وكان على تواصل مستمر بهم.
كان الترابى يعلم أن الانتخابات التي كان مقررا لها ان تجري في العام 1990 كانت ستعيد تنظيم الاخوان (الجبهة الإسلامية) الي حجمها الحقيقي، وهو في حدود عشرة دوائر جغرافية في أفضل الاحتمالات، لأن القوى السياسية كانت بصدد إلغاء دوائر الخريجين التي ثبت عدم جدواها، واستبدالها بالدوائر النوعية للمرأة والعمال واستاذة الجامعات وغيرهم من القطاعات الحيوية بالمجتمع. وهو ما جعله ينقض على الدولة وعلى التجربة الديمقراطية، وينفرد بالسلطة ويبعد كل الشعب السوداني من غير المنتمين لتنظيم الأخوان ومن ثم يمارس المشروع الإخواني النموذجى الفاضح والكامل غير المنقوص، والذي مثلته تجربة الانقاذ منذ بدايتها الي نهايتها والتي يتابعها العالم كله هذه الأيام بما اكتنفها من ممارسات لا انسانية وفشل كامل في الحكم في كل الجوانب.
وكل من يقول ان ماتم من ممارسة في اطار دولة الانقاذ يختلف عن المشروع الفكري والسياسى للإخوان، فهو اما شخص مغيب وساذج او كادر ملتزم لكنه يحاول التذاكي على الشعب من أجل ان تتاح لهذا التنظيم الاجرامى فرص أخرى للعمل على أرض السودان.
الشعب السودانى وعي الدرس بعد أن دفع اثمان كبيرة من ارواحه وارضه ونسيجه الاجتماعي والآن يثور لاستعادة دولته المحتلة وقيمه الوطنية التي تأسست على ارضة من خلال تجارب مكوناته في مسيرة امتدت لالاف السنين. الشعب وعي الدرس تماما وعرف حقيقة هذا التنظيم وعانى من تجربة حكمه ودفع اثمان باهظة في ظل تمكنه من الدولة السودانية، ولن يرتاح إلى أن يحرر الوطن المحتل والي أن يعيد السودان الذي غيب وجهه الحقيقى الغرباء.