هذا المقال محاولة مني لقراءة المشهد السياسي الذي وصل قمة انسداده، فها هي الثورة تواصل مسيرتها بكل عنفوان، دون اي مبادرة من الحكومة للوصول لحل سياسي، والرفض القاطع من الثوار لمحاولات الالتفاف على الثورة بشراك المبادرات التي اتسمت بأنها مشبوهة، والغياب التام للمبادرات الدولية والاقليمية. هذا الواقع الانسدادي اسهمت فيه الحكومة ومراكز القوى الحاكمة ، فأي مبادرة من الحكومة او اي طرف من اطرافها ينقل الصراع من خانة الصراع بين الحكومة والجماهير الي خانة الصراع بين الحكومة – الحكومة ’’وهذا خراب بيت الحكومة والحركة الاسلامية‘‘، ولتأجيل هذا الصراع أو خراب البيت ، اختارت الحكومة ’’ايسر الأمور‘‘ و ’’احسنت التفاؤل‘‘ وذلك ’’بالصهينة‘‘ وشراء الوقت اعتمادا على ’’انهاك الثوار‘‘ فيُخمِدون ثورتهم ذاتيا وهذا لعمري ’’ضنب الككو‘‘ الذي لا يصل ممسكه الي صنعائه ابدا. لاستجلاء ذلك والوقوف على حقيقة الامر ، علينا الدخول الي البيت الأنقاذي لنرى ما فيه وما عليه من أحوال.
ولنبدأ بالرئيس البشير الذي يجب قراءته منذ ان بدأ ان يكون سياسيا، عقب المفاصلة الرمضانية الشهيرة. ففي ذلك الحين اكتشف البشير ’’يا دوبك‘‘ ان الحركة الاسلامية ارادت ان تجعل منه “همبولا” ..و”ريس متيس”.. بدأ يفكر ان يخرج من هذا الدور..باكرا… التقت مصلحته بالعشرة اصحاب المذكرة ومهندسي المفاصلة في التخلص من الترابي.
التخلص من الترابي ما كان سيتم للعشرة مجتمعين او لاحد منهم.. فاستخدموا البشير في صراعهم ضد الترابي. .. فجعلوه رئيسا للحزب وللحركة الاسلامية وركزوا السلطات في يده ..ظنا منهم انهم سيحركونه بالرموت كنترول ..كمرحلة مؤقتة.. ولكنه ادرك بانه ليس في مأمن.. فمن غدر بشيخه ورب نعمته سيفعلها معه طال الزمن او قصر
فتحركت فيه فتنة السلطة والثروة وتعاظمت عنده غريزة البقاء، فبدأ يبني ،داخل التنظيم، تيارا يحميه… من بعض الاسلاميين وبعض مرتزقة السياسة واهل المصالح حتى من خارج الاسلاميين ..والاقارب وبعض قادة الجيش من خلال علاقات الزمالة، القربى والعصبية المهنية..وكل ما خطا خطوة نحو تمكين سلطانه ابعد عنصرا من عناصر “مركز القوى الاسلامي” ..ففصل غازي..وابعد على عثمان.. والجاز ..ونافع وجردهم من ادوات القوة والسلطان وقد استعان عليهم ببعضهم البعض..فقد استغل عقليتهم التآمرية، فنجح في ابعادهم تماما عن مركز الحكم، وابقى على شعرة معاوية بينه وبينهم ، فما اراد للخلاف ان يصل مرحلة المواجهة فهو يخشى ما لديهم من بعض قوة، وهم يخشون سلطان الدولة ، هم حرصوا على بقاء الحكومة كنموذج اسلامي وما ارادوا تعريضه للهزات أو الصراعات الدامية التي قد تضعفه او تطيح به تماما.
البشير لم يكن، ولا زال، يثق في الجيش تماما ..فهو يعلم ان الحركة الاسلامية عبثت به..فاستفاد من حروب دارفور ليؤسس للدعم السريع كجيش مواز للقوات المسلحة من جهة وللامن ومليشيات الاسلاميين من جهة اخرى، وقد سعى لخلق قاعدة اجتماعية له ..ولاؤها مرتبط بشخصه من خلال الرشا وبذل المصالح ..والقرابية..وبعض ممن كان محسوبا على الاسلاميبن مستغلا خلافاتهم التنظيمية والقبلية والغيرة التنافسية وشهوتهم للمال فأغدق عليهم، أو غض الطرف عن فسادهم.. كما واستثمر في زعماء القبائل.
حتى في البعد الخارجي ..كان هو وزير خارجية نظامه فما امِن للاحلاف التي تدعم الاسلاميين.. فقد خلق احلافه التي تعادي الاخوان وتدعمه هو …فدخوله في حلف الامارات السعودية لم يكن بتدبير الاخوان ..وطرده للايرانيين لم يكن مباركا منهم..والشغب الدبلوماسي الذي يقوم به ليس من بنات افكار الرأس الدبلوماسي أو التنظيم…خلاصة الأمر أن البشير اصبح دولة داخل دولة الاخوان.
الاخوان يريدون التضحية به طوال الوقت ..ولكنهم كانوا خائفين.. من مواجهات بينهم تذهب بالتجربة الاسلامية وهذا ما لا يرضاه التنظيم العالمي، فهم ليس على قلب رجل واحد ولم تعد لهم مرجعية قيادية…كما كان الحال على عهد الشيخ حسن الترابي، فبعد ازاحته وبعد رحيله مؤخرا، اتضح ان من خلفهم يعانون فقرا معرفيا، تنظيميا وكارزميا، وما وجدوا من يملأ مقعده، ولم يكن بينهم من تجتمع فيه السلطة الزمنية والروحية داخل الحركة، فعلي عثمان لم ينتزع اعتراف الآخرين بقدارته للقيادة ، وغازي ليس له القاعدة الاجتماعية التي تسنده، والجاز رجل غامض مكتف بالنشاط الامني والاستثماري، ونافع ليس له في الامر شروى نقير الا بعض كلمات بذيئة وعبارات نابية…لهذا هم لا يتفقون على خليفة للترابي، او للبشير ان اطاحوا به فهم لن يجمعون على.. علي عثمان الذين يرى الجميع انه لا يعلوهم كتفا، وانما نال ما ناله لانحياز الترابي له، ونافع مفلس، و الجاز ليس مؤهلا كما انه لا ثقل قبلي له رغم حسبته على الشايقية، وغازي قد فارق الجماعة فضلا عن انه بلا سند اجتماعي..وابراهيم السنوسي وعلى الحاج قد ذهبا مذهبا آخر ولو كانا هنا ايضا لحالت العنصرية دون توليهم الأمر، فضلا عن ثارات ’’بايتة‘‘ بينهما وبعض افراد الطرف الآخر، اما قوش فهو اصلا لم يكن في يوم من الايام سياسيا أو مفكرا أو خطيبا حتى على مستوى التنظيم الطلابي في كلية الهندسة! غير ذلك فهو يأتي تاريخيا في مرتبة متخلفة في الترتيب خلف هؤلاء، غير انه غير مأمون الجانب وانه ما عاد اسلاميا، بل اصبح عميلا مخابراتيا يعمل لصالح نفسه معاظما لامبراطوريته الامنية والاقتصادية.
فحتى لا يتناحرون وينحروا التجربة ..قبلوا على مضض باستمرار البشير كل هذا الوقت.. في ظل استمرار مصالحهم من النظام التي حرص البشير ان لا يمنعها عنهم…من باب اطعام الفم ليظل ماضغا لا متحدثا feed the mouth that bites you
لكن ان تثور الجماهير ..وتسقط النظام ومعه الحركة فهذا ما لا يرضاه التنظيم العالمي.. ولن يرضاه اسلاميو الداخل لذا هم الآن في خيار التماهي مع الثورة وملأ الفضاء باجسام موالية لهم ومبادرات …تسقط النظام في عبهم، او لا تخرجهم من مولد ما بعد سقوطه من غير حمص
وهذا الطريق يمر بالتضحية بالبشير..فان تعنت وحاول التمسك بالسلطة والانقلاب عليهم ستحدث المواجهة فقد حدثت مواجهة في اجتماعات بينهم .. حاولوا تحميل البشير الفشل.. وهو حملهم الفشل، كل منهما خطه سيكون ان فشل التجربة يعود الي الآخر
يُلاحظ ان المؤتمر الشعبي يقود خط الحفاظ على التجربة ..ولم شمل الاسلاميين..بتنسيق مع التنظيم العالمي… وقد اوفد على الحاج للتواصل مع طيورهم المهاجرة.. بينما يظل السنوسي بالداخل للتنسيقات الداخلية
وقد اخطروا البشير ..بأن التنظيم العالمي لا يرغب في استمراره لان فيه ذهاب التجربة وطالبوه بالتضحية من اجل الاسلام فرفض الطرح جملة وتفصيلا وغضب…وقال لهم “يا نمرق كلنا او نغرق كلنا…وما تحملوني اخفاقاتكم” هذا من بدايات الثورة..وهددهم وقال انه “ما عاد يحتاج لهم..وانه سيستمر.. ولو دعا الامر لسلمها للجيش”
وقد قام بزياراته الخارجية لوحده وليس بدعم من التنظيم او مؤسسات الدولة..اراد ان يضمن محور الامارات والسعودية ..بجانب مصر في خطة ابعاد الاسلاميين وفي الداخل ركز على استقطاب دعم الولاة الذين يصنفون في صفه وداعميه، كما ويحتشد حوله فيصل حسن وارباب المصالح من المتنفذين وبعض احزاب الحوار والاحزاب المستنسخة. ولا زال الصراع الداخلي مستمرا ويأخذ اشكالا مختلفة
وحسب تقييم المؤتمر الشعبي ان البشير لا زال ممسكا بمعظم خيوط اللعبة في وضع افضل من بقية الفرقاء ، ويبدو ان منافسي البشير ينتظرون من الثورة أن تضعفه اكثر وتهز ثقته في امكانية الاستمرار، فهم يتحركون وفقا لثلاث سنياريوهات الانقضاض عليه حالة ضعف او يقنعوه بالتنازل …او ان يرضخ لنتائج مبادراتهم السياسية التي يطبخونها على نار هادئة.
فالوضع في البيت الحكومي والاسلامي اكثر تعقيدا مما يبدو، رغم انهم فرقاء متشاكسون الا انهم يستهدفون استمرار تجربتهم ، ولكن لا أمل في التقائهم على كلمة سواء، فالبشير معتمدا على بطانته من الاقرباء واصحاب المصالح والولاة، علاوة على قوات الدعم السريع وبعض من قوات الجيش والامن، مع احتمال راجح لانحياز قوش اليه، هذا فريق خطه الاستمرار في الحكم فقائد الفريق يخشى الجنائية ولا يأمن مَن حوله او الثوار، او حتى الدول التي وعدته بتوفير ملجأ آمن له ، فالرجل لا يريد ان يكون تشارلز تايلور آخر. اما الفريق الثاني فريق الاسلاميين او فريق علي عثمان ، فعلي عثمان هو عراب استمرار التجربة الاسلامية ولو باراقة الدماء.. فهذا الفريق يتحرك وفق اكثر من خطة متماهيا مع رغبة التنظيم العالمي، في التضحية بالبشير، أو الوصول لصيغة سياسية لا تذهب بكل التجربة. أما الشعبي والمغاضبين من الاسلاميين فقد اختاروا طريق الحل السياسي من خلال المبادرات والمفاوضات.
ونحن في الجانب الآخر يعنينا استمرار الثورة الي ان ينهار النظام ويسلم القائمون بأمره بالقدر المحتوم، الا ان اسوأ السنياريوهات ان حاول فرقاء الحكومة حسم ما بينهم من خلاف ، ففي ظل اصرار البشير على عدم التنحي، فانه مضطر لمواجهة مع الاسلاميين وحينها ستكون المواجهات راعفة، فمليشيات الاسلاميين وجزء من الجيش والامن ستكون في جانب على عثمان، وقوات الدعم السريع وجزء من الجيش وغالب قوات الأمن ستكون في صف البشير، ربما احدث هذا الامر فوضى عارمة واسال كثيرا من الدماء ، لكنه سيكون النهاية المادية للاسلام السياسي في السودان ، فهو الاقتلاع من الجذور وربما كان ذلك من لطف الله بنا ان يجعل كيدهم في نحرهم فيخربون بيوتهم بأيديهم…وهذا سينياريو لا يرد عند المحللين رغم توافر كل الظروف الموضوعية والذاتية لأمكانية حدوثه، الا ان ما يعنينا في هذا الامر أن ’’تسقط بس‘‘