صبر شعبنا المعلم الوفي على جور وتسلط وفساد وتمكين الإنقاذ
نحو ثلاثين عاماً؛ حتى كدنا نفقد الثقة في أنفسنا، وفي كياناتنا السياسية، وننظر إلى
ربيعنا الثوري المبكر في اكتوبر 64 وابريل 85 على أنه خيال وليس واقعاً.
بل أخذنا نتساءل: “هل فعلاً نحن امتداداً لرماة
الحدق في قديم الزمان، ولأبطال وشهداء شيكان وابوطليح وكرري وأم دبيكرات من
تاريخنا الحديث، حيث حدد أجدادنا حدود وطن حدادي مدادي بحوافر خيلهم، وروت دماؤهم
الطاهرة كل شبر فيه دفاعاً عن حريتهم
وارضهم وكرامتهم حتى قال عنهم الغازي: “دمرناهم ولم نهزمهم”.
وسط هذا الركام من الفشل وفساد الإنقاذ وموت الأمل
تفجرت ثورة 19ديسمبر 2018م التي كان وقودها ضيق الحياة والظلم وفساد أهل الحكم…
ثورة فجرها شباب صغار جلهم من مواليد عهد الإنقاذ .. شباب كنا ظالمين لهم، إذ
وصفوا بجيل السيستم الذين الذين يحلقون شعرهم على الموضة، وانهم شباب بلا رؤى، ولا
يحملون أدني مقومات الرجولة والوطنية، حوكموا بمعايير ما سبقهم من أجيال بأن لا
أمل فيه، لكن باندلاع الثورة فاجأنا هؤلاء الشباب بقدراتهم التنظيمية العالية
ووضوح الرؤية، وقدرتهم على تحمل الشدائد، فتغيرت الصورة، وكل الألوان الزائفة التي
تم طلاؤهم بها من قبل الآخرين، وهم يقول لنا صبراً آل ياسر.
شباب تدفق في الشوارع يواجهون جبروت أمن النظام وكتائب
ظل على عثمان طه بشجاعة وبسالة أكدت لنا أن جينات أجدادهم من الأبطال باقية ويحملها
ويصونها شباب اليوم.
لقد كان سلاحهم فقط الإرادة القوية المدعومة بشعارتهم السلمية التي أطلقوها داوية “سلمية سلمية
ضد الحرامية .. حرية سلام عدالة .. العنصري المغرور كل البلد دارفور .. كل كوز
ندوسوا دوس ما بنخاف ما بنخاف..”، يا الله تأملوا هذه الشعارات في قوتها، وفي
تناغمها، وكيف لخصت قضايا الوطن وخاطبتها.. نعم إنهم لم يخربوا أو يحرقوا أو
يدمروا.
حقيقة أنهم شباب مبدع، وأبناء لشعب معلم.. للأسف بعض
الأصوات من أعلام النظام، ولتشويه مقاصد الثورة، وحراك الشباب، وصفوهم أنهم يتبنون
شعارات الشيوعيين والمندسين، ولكن نقول لهم يا هؤلاء ” أنجروا طرف” لن
ينطلي على الناس هذا الكلام بعد الآن، فالحرية والعدالة والسلام قيم إنسانية عليا
أكدتها جميع الشرائع السماوية فلم الإصرار على أنها شعارات شيوعية، ثم لماذا يرفض بعضنا
شعار”أي كوز ندوسوا دوس ما بنخاف ما بنخاف”، وعندما ننتقد ذلك علينا أن
نتذكر ما فعله أمن الكيزان وكتائب الظل في هؤلاء المحتجين سلماً.
فأي محتج خرج الى الشارع له زميل أو صديق سجن أو عذب
أو قتل برصاصهم، فهل بعد كل ذلك على المتظاهرين أن يحملوا الورود ليقابلوا بها
كتائب القتل والتعذيب التي بسببها ظلوا كل يوم يحملون شهداء إلى المقابر، تركوا
خلفهم أمهات ثكلى تكفكف دموعها، وأسر كانت تنتظر فزعة أبناء قتلوا في ريعان شبابهم
لمواجهة قسوة الحياة فتركوهم بلا أمل .. نعم الله موجود.
فالكوز مهنة وسلوك وممارسات كلها فساد يجب أن تستأصل وفق
فقه الثورات، لكن مع ذلك يؤكد الرأي العام لشباب الثورة أن احتجاجاتهم سلمية وبمقاصد
نبيلة، والعبرة بتجاوب النظام مع مطالب الشارع، وإن المحك الحقيقي سيكون في برنامج
الفترة الانتقالية ونظام الحكم والدستور الذي يتراضى عليه الشعب. فهناك يحدد شعبنا
المعلم هويته الضائعة منذ سنين وشكل دولة المواطنة وكيف يحُكم مع إطلاق آليات
لانتخابات حرة نزيهة شفافة عندها مرحباً بمن يكسب ثقة الشعب. وفي كل الاحوال فإن
الطريق الى ذلك يمر عبر المساءلة والمحاسبة ولا مجال لعفا الله عما سلف، فبين
شعبنا الصابر والإنقاذ دماء سالت، وأرض فقدت، أاسر تشردت، ونفوس وئدت، ومن ثم فإن
العدالة هي طريقنا للتراضي وجبر الضرر، وموعدنا غداً إن شاء الله أمام القصر ومحاكم
العدالة.