خطفت ذبحة قلبية قاتلة ، بعجل وفجائية ، صديقي العزيز السفير الدكتور عطا الله حمد البشير وهو يخرج من بيته لزيارة والدته كما يفعل عصر كل جمعة . فلم يصلها في “جبرا” لتقالده ولم يمسح علي رأسها ، كما يحب . سقط عطالله قبل أن يفتح باب سيارته ، ومات ! وفي لحظات معدودة تسربت روحه من جسده وتخلت عنه -بهذا اليسر وذاك اللين ! …
منذ هذا الصباح والي أن نصير الي ماصار اليه ، سيبدأ كل من عرف عطالله الحديث عنه بصيغة الماضي ، ولا حول ولا قول إلا بالله وإنا لله وإنا اليه راجعون . لقد كان الراحل أحد أفذاذ رجال هذا الوطن علما ، ومعرفة وخلقا . بداياته كانت في قرية ( ملواد) ، نقطة منسية في كتب جغرافيا بلادنا المترامية لا نعرف عن ملواد سوي أنها تقع مابين النهر والصحراء في شمال بلادنا ويسكنها أناس مسكونون بحب كل ذرة تراب فيها ، مثلي ومثلك في حبنا للأمكنة التي تعيش في وجداننا بالميلاد. كان مولده في عام 1946 ، يوم أن زمجر النيل وفاض وخرج عن مجراه وصارع الرجال فخرجوا لملاقاته فغنت لهم النساء ( عجبوني الليلة جوا ترسوا البحر صددو ….) . كان ميلاده شأنا أسريا عاديا ، ذبائح وتبريكات ودعاوي بالنجاح – قالوها برطانة دنقلاوية صميمة . سنوات قلائل وتعلم الطفل التنقل بحمار والده مابين البيت ومدرسة الخندق عبر المراكب العابرة للضفة الأخري . بين ثنايا هذه البساطة في العيش وتقبل مقدور الارزاق أودع الله عبقرية التفوق في جينات هذا الشعب العظيم . فبعد عقود لاحقة من الترحال بين محطات التمثيل ومدن العبور البعيدة التي توزعت مابين الكويت ، تشيكوسلوفاكيا ، بخارست ، برلين ، روما ، الرياض ، نيويورك فإن طفل قرية ملواد المنسية أصبح قائدا لأكبر منظمة أفريقية إقليمية هي الايغاد ، ولدورتين كأمين عام لها في مطلع هذه الألفية ! وعن الايغاد سنحكي ظلم من يفترض أنهم ذوي قربي لكنهم رعاة ظلم وذوي حقد . فما أن إنتهت الدورة الأولي للأمين العالم الدكتور عطاالله حمد البشير وحان التجديد له لولاية ثانية ، قرر وزير خارجية الغفلة والغيبوبة الدبلوماسية مصطفي عثمان إسماعيل عدم التجديد لسفيره الدكتور المتفوق ! لماذا ؟ لا ندري سببا واحدا يجعل طبيب الرحي الثالثة (الاسنان) يتخذ هذا الموقف إلا أننا أُبلغنا أن الوزير الانقاذي ظن أن مهمة عطا الله هي أن يكون بوقا ضمن جوقة المصفقين لحكومته وهو مالم يفعله الدبلوماسي الهمام . إعتقد مصطفي إسماعيل إن عدم التجديد للسفير لدورة ثانية سيطيح به ويقضي عليه كما كان يؤمل . بيد أن المفاجأة كانت حين توافقت كل بلدان الايغاد علي التجديد لأمينها العام السوداني لأنها لن تجد أحسن منه ، كما قال وزيرا أثيوبيا وإرتيريا الدولتين المتحاربتين في جلسة حضرها مصطفي إسماعيل ! يومها كان طبيب الاسنان أن يبلع أسنانه فوق أطنان الحجارة التي إلتقمها وإنهالت عليه بعدها الشلاليت الدبلوماسية عندما فاز عطا الله لدورة ثانية بتزكية الأفارقة دونما الحاجة لترشيح أو تزكية عصابة الانقاذ له أو تأييده! كان عطا الله دبلوماسيا بارعا ، فقد رقاه وزيره الدكتور منصور خالد تقديرا لتقاريره التي كان يبعثها من أول محطة عمل فيها ، الكويت ، قبل أن يراه وزيره أو يتعرف عليه شخصيا ! فمنحه ترقية إستثنائية قفزت به دفعتين أمام أقرانه ، فطار من سكرتير ثاني الي مستشار ! عرفته وأنا طالب جامعي يافع في منحة دراسية . كان يحضر لنا في السكن الجامعي كل إسبوع فيشفي ما بنا من حنين للسودان وأخبار السودان فيترك لنا نسخه الخاصة من صحف السودانية ، ويالها هدية في بلد الغربة ! بعد سنوات لاحقة تقاربت الكتوف فإلتقينا في أمريكا وأنا أستهل دراساتي العليا بينما هو يستعد للعودة للسودان بعد أن حصل علي درجة الماجستير من جامعة سيراكيوز .
كان عطا الله ، الي جانب سجله العملي المشرف ، رساما بارعا وفنانا تشدك لوحاته بألوانها المائية الزاهية ( تجدون أسفله عدد من رسوماته التي تخالها للوهلة الاولي أنها صور فتوغرافية ). فجيعني هذا الصباح كبيرة ، وحزني علي رحيلك العجول ياعطا الله أكبر – ترك في الحلق غصة ، وفي النفس كدر وفي العين دمعة . قال لي الصديق السفير عوض محمد الحسن المشدوه بالفاجعة وهو يبلغني بالفقد الجلل ( كنت أتحدث معه البارحة لأكثر من ساعة ، قالوا أنه صلي العصر وكان يتجه لقضائ عصر الجمعة مع والدته فسقط ، ومات) قلت له ( لقد أرسلت له قبل ثلاثة دقائق رسالة في الواتساب )…. مات عطالله ولم يرسل لي مرئياته عن آخر تحليل ……
اللهم تقبله قبولا حسنا وأجعل الجنة مثواه وارحمه بأضعاف ماقدم لبلادنا التي حرص علي رخائها ونافح عنها وعن مصالحها بصدق . فيكفي أن نستشهد بما فعله عندما أرسلوه سفيرا لسفارة جديدة فتحوها ، بلا دراسة أو تريث ، في دولة مالطا . وصلها السفير عطاالله وبعد أسابيع كتب للخارجية يبلغهم أنه لا يري جدوي من وجوده هناك علي رأس سفارة لن تفعل شيئا ذي معني وسيكون كمن يؤذن في مالطا بلا مصلين – أستجابت الخارجية لطلبه ، فأغلق السفارة وعاد للخرطوم لتوفير المال العام !
رحمك الله ياسيد الرجال بلا إستثناء.