أظن أنني كنت واحداََ من بين قلائل تنبأوا بما يمكن أن يأتي به الخطاب الرئاسي أمس. ولعل غير قليل من الناس قد تسمروا امام شاشات التلفاز يمنون النفس بموقف ، تاريخي، بطولي، رجولي من رجل ليس له من هذه الصفات كثير زاد.فمن الخطل ان نتوهم ذكاء في رجلِِ يغبو حتى عن حقيقة نفسه ومن إفَن الرأي أن نرجو موقفا رجوليا من رجل عُوار راجِف.
الرجل لا يستطيع ان يبادئ باتخاذ قرار، اذ لا قدارة له بذلك. وإن فعل فهنالك من يتدخل في النهايات ليجعله يقرأ خطابا لا رسالة ولا محتوى فيه.
عندما انتفض الشعب في سبتمبر ٢٠١٣، ترقب الناس الرجل ان يفعل شيئا، الا انه دعا تنابلته وبعضا من أشعريي الأحزاب للقاء يشبه لقاء الامس، وجلس القوم كأن على رؤوسهم الطير، ينتظرون الرجل ليخطب فيهم متفضلا عليهم بسديد الرأي وحكمة الزعماء طريقا خالجا لعلاج ما تأزم ووصفة شافية تشفي الرحم الذي انسربت منه ادواء البلاد وابتلاءاتها، انتظروه مثلما انتظره نظارة الأمس، وقد قطع عليه الطريق نفرُُ من ترزية الخطابات الرئاسية من عجر الاسلاميين وبجر المفسدين، فحمّلوه خطابا يئن من ثقل الرتوق التي الحقت بفتوقه. فكان خطاب الوثبة المخيب للآمال ومفاده ان يحاور النظام نفسه.
ما حدث في سبتمبر ٢٠١٣ قد تكرر بحذفاره في فبراير ٢٠١٩، فقد دعا الرئيس للقاء، أمه غير قليل من التنابلة والاشعريون، وجلسوا ايضا وكأن على رؤوسهم الطير، وجاء الرئيس، ولأنه لا يملك قرار نفسه، حيل بينه وبين الوصول الي المنصة، فأخِذ الخطابُ من بين يديه ليَعبَث به ترزية الخطابات فأثقلوا كاهله بالرتوق، فجاء على النحو الذي سمعناه وهو غاية الشبه بخطاب الوثبة. انها وثبة أخرى والي الظلام، ربما اختلفت هونا ما، فالمشهد غير ما هو المشهد الذي اعتدناه لثلاثة عقود، اذ لم نر فرقة الطرب الرئاسي. امس غابت ” فرقة حسب الله” عن المشهد،كما اننا لم نشهد الرئيس راقصا كما هي عادته التي تَحِينُ كلما رأى جمهورا يريد ان يخطب فيه، لا علينا فلربما بلغ سن اليأس أو لأن اللقاء أحتضنه القصر الرئاسي، كما أن من جديد هذا اللقاء أن الحضور لم يهللوا لمقدم الرئيس أو يكبروا كما دأبوا، بل أنهم بعد نهاية الخطاب ظلوا واجمين في اماكنهم، وقد نسوا أنهم اسلاميون لا يحتفون كما الآخرين بما اسموه المكاء والتصدية، فمشروعهم الحضاري يلزمهم أن يفرحوا هيللة وتكبيرا، وان حزبهم الأمر حوقلوا، فقد جلسوا وكأن واحدهم بعير حط على رأسه غراب ينقد قرادا من على رأسه، وأيضا مما هو جديد ايضا ان هذا الخطاب وثبة في الظلام سيقع صاحبها في مزبلة التاريخ.
لقد تعالى الرجل وهو وضيع، تعالى بجعلِه الشباب محور حديثه، وكأنما الثورة التي تشهدها البلاد ثورة فئوية، فهذه فرية رددها اعلام النظام وبلا وعي فعل اعداؤه. هذه الثورة ، ثورة الشعب السوداني بكل فئاته، وليست قاصرة على فئة عمرية بعينها. فلا يكون مظهر المتظاهرين مضللاََ ، فكل الحراكات الميدانية في كل ثورات العالم يقودها الشباب من الطلاب والمهنيين، ولم تكن ثوراتنا السودانية بدعا من الثورات، الم تكن اكتوبر ١٩٦٤ ثورة شبابية؟ فقد قادها طلاب جامعة الخرطوم وقطاع الطلاب. فلم يكن القرشي كهلا وكذلك لم يكن حران وبابكر عبد الحفيظ وبقية شهداء تلك الثورة، بل ا ن قيادات الأحزاب لم يبرحوا مطالع الثلاثينيات من اعمارهم، فقد كان الصادق المهدي ٢٩ عاما، والترابي وعبد الخالق وغيرهما من قادة الاحزاب والنقابات بالكاد يبلغون الثلاثين من عمرهم. ومثلما كانت اكتوبر ثورة شبابية كانت ابريل التي خرجت من رحم الحركة الطلابية والنقابية وقد أُطلق عليها حينا ثورة الشماسة ولم يكن الشماسة الذين ابلوا حسنا فيها كهولا او شيوخا. ما يتداوله الاعلام الحكومي هو نهجه الذي يدير به البلاد منذ ثلاثة عقود، فقد اراد ان يدق اسفينا بين الشباب والفئات العمرية الأخرى من ناحية ومن ناحية أخرى قصد تحجيم وتقزيم هذه الثورة وحصرها في فئة أجتماعية بعينها.
يجعلها ثورة شباب؟!! من هم الشباب؟ ما هو الجسم الممثل للشباب؟ ومن هم الشباب الذين سيحاورهم النظام؟
البشير في خطابه اقر بالازمات واعترف بالثورة وهذا هدف سجله في مرماه وهو هدف حاسم ، كما انه اعلن عن تعديل في حكومته وولاته، وان قصد الالتفاف على الثورة بهذه الخطوة، فهو هدف ثان سجله في مرماه، اذ اكد ان نظامه مخلول وان حكومته معطوبة، وسجل هدفا ثالثا ايضا في مرماه بتأجيله للتعديلات الدستورية التي كان يسعى لفرضها ، مما يعني ان الثورة جعلته يتحسب للأمر.
وكالعادة لم يخل الخطاب من محاولات الالتفاف على الثورة، ومحاولات الإلتواء والهروب من دفع الاستحقاقات.
فقد دعا لحوار ، اعلن انه سيقف منه موقف الحياد، دون ان يُعلمنا كيف سيكون محايدا؟ وهو القضية التي يراد بحثها؟ كيف سيكون محايدا وهو رئيس النظام الذي يثور الناس ضده؟ كيف سيكون محايدا وهو على رأس الحزب الذي يتعاطى الشأن السياسي ممثلا للحكومة؟
نعم، اعلن عن حوار مبهم دون تحديد لقضايا ذلك الحوار المزمع. هل سيتم الحوار على اجندات الثورة؟ التي يتصدرها ذهابه شخصيا وحكومته؟ والتي من ضمنها الانتقال لوضع جديد ليوقف الحرب ويؤسس للسلام العادل، ولتأسيس نظام يرسي قيم الحرية والديمقراطية، يعالج الازمات الاقتصادية ويحقق العدالة الاجتماعية وينجز المحاكمات العادلة لفساد الانقاذ وسوءاتها..هل يا تُرى سيكون الحوار حول هذه الاجندة، التي سماها البشير بالحالة الصفرية ام ان له اجندة أخرى؟
نعم دعا الرئيس الى حوار، محددا مرجعيته بوثيقة الحوار الوطني والسلام الشامل سيئة الذكر، من دون ان يحدد منصات ذلك الحوار ومن هم المتحاورون وهذا التفاف والتواء…لن ينتهي الا حوار كذوب كحوار الوثبة الذي حاورت فيه الحكومة نفسها، فلا نستبعد ان تُستنسخ تنسيقية ضِرار بأسم تنسيقية الحرية والتغيير الاسلامية، مجموعة ال ٥٢، مبادرة تيار المستقبل ، المؤتمر الشعبي، وصناعة منشقين من عبد الواحد نور ، وفصيل منشق من كل مكون من مكونات الحركات المسلحة وجسم هلامي باسم تجمع الشباب الوطني لتعرض الحكومة مسرحية حوارية لا تنتهي لشئ سوى استمرار النظام.
ما يؤكد سوء النية هو اعلان الطوارئ وعسكرة ولاة الاقاليم ولربما انسحبت العسكرة لتشمل الحكومة الاتحادية، وهذه رسالة مفادها استمرار الرئيس في الحكم وتشبثه بكرسيَّه، اكراها وعسفا سيطال كل معارض.
الا انه قد فات على الرئيس ومعاونوه، ان الثورة قد سدت عليهم كل المنافذ وحددت لهم طريقا واحدا لا غير، فالثوار ليس لديهم ما يريدون التفاوض حوله غير “متى سترحل سيدي الرئيس‘‘؟ فارحل ودع الامر لنا، سنأتي بالسلام وسنعالج قضايا الشباب والاقتصاد فلا تشغل بالك بالامر فما عليك الا ان تخِف رحيلا تودعك لعنات الارامل والثكالى.
كنت واثقا انك لن تقرأ شعارنا المقدس “تسقط بس” كما ينبغي..فقد قرأته معكوسا ومجزوءا، ربما غباء او استغباء، اراك وقفت عند “بس” متجاوزا “تسقط” ..لم تأتي لتُسقِط نفسك وحكومتك.. ولكنك جئتنا ل “تبسبس” لنا. قلنا لك “اسقط” فوقفت حائرا ترد ..بس …بس ..بس ..فما قلته وما تنوي ان تفعله لا يتعدى كونه “بسبسة ساكت” لن تفيدك شيئا ولن تعصمك مما هو آت اليك.
وقبل ان أُزايل مقامي هذا اود ان اقرظك واشكر لك صنيعا ربما لا تكون ومعاونوك قد انتبهتم اليه، وهو انكم بخطابكم هذا وما حواه قد اسديتم لنا معروفا.. فقد كنت في قمة خوفي ان تأتينا بمبادرة منقوصة، تجعل بعضا منا يأبه بها فيَفَتُ عضدُنا وتَنفرطُ عُروتُنا..فقد احسنت صنيعا ..اذ لم تصرفنا عن ثورتنا، اما فيما يختص بقانون الطوارئ، فهذا توكيد لحقيقة انك لا تدري ماذا يجري على الارض، ما عاد الاعتقال، العسف، التعذيب، القتل يخيف أحدا كل هذه الامور على قساوتها وفظاعتها اضحت لعبة محببة يمارسها الثوار على مدار اليوم..فقد تواثقت العرى بين الشوارع والثوار.. فكل منهما يشتاق الآخر ويناديه.. ولا تنسى اننا اندلعنا واندلقنا في الشوارع من غير ان نستأذنك ..فقد كان ذلك بإرادتنا ولن نعود الا حينما نقرر العودة ..ولن نقرر العودة حتى ترحل! فلا عسكرة ولا قانون طوارئ يقف حائلا بيننا وما نهدنا اليه.
تسقط بس