بعد شهرين من الاحتجاجات الشبابية الغاضبة التي عمّت معظم مدن السودان ضد حكومة البشير ونادت بأعلى صوتها “تسقط بس”، لجأ البشير إلى الكرت الأخير في جعبته لعله ينقذه من السقوط بعد أن فشل تنظيمه السياسي (العملاق) وأجهزته الأمنية (التي تُلم بكل صغيرة وكبيرة في البلد) من وقف الاحتجاجات في أي مدينة من المدن. استعمل البشير موقعه كضابط قديم في الجيش وبصفته القائد الأعلى للجيش ليفرض على الجيش دورا أمنيا وسياسيا لا صلة لهم به، وذلك بتعيين قادة كبار في الجيش منهم معاشيون وبعضهم في الخدمة (والكل سواء طالما لبسوا الكاكي) ليصبحوا حكاما على كل ولايات السودان، مما يعني أنهم مسؤولون عن حفظ الأمن ومواجهة الاحتجاجات الشعبية التي تسبب فيها البشير بسوء إدارته لموارد البلاد عبر السنوات بما فيها إيرادات البترول التي تقدر بحوالي 60 بليون دولار في الفترة من 1999 إلى 2011، ومن بعدها عوائد الذهب التي تقدر بعشرات المليارات خرج النصيب الأكبر منها عن طريق التهريب بواسطة مقربين من الرئيس. ويقع على كاهل هؤلاء الحكام تقديم الخدمات الضرورية من صحة وتعليم ومياه وتوفير الوقود والخبز دون أن تتاح لهم الموارد اللازمة لذلك، وأن يتعاملوا مع القوى السياسية والاجتماعية والعرقية في الولاية ومع المجلس التشريعي بكل ما يعنيه ذلك من احتكاكات وصدامات ونزاعات قديمة لا يعرفون جذورها. وعين الرئيس الجنرال ابن عوف المقرب منه وزيرا للدفاع ونائبا لرئيس الجمهورية في سابقة غير معهودة حتى يسُد له ضابط الاستخبارات المتمرس ثغرة الجيش فلا يأتيه منها ما لا تحمد عقباه!
والسؤال المهم لماذا يتحمل الجيش السوداني اليوم فشل حكومة البشير على مدى ثلاثين عاما؟ ولا يملك البشير شرعية سياسية يستحق بها الدفاع عن نظامه، فانه تسلم السلطة عبر انقلاب عسكري في 1989، ولم يواجه منافسة حقيقية في كل الانتخابات التي عُقدت في 1996، وفي 2000، وفي 2010، وفي 2015، والأخيرة قاطعتها كل الأحزاب التي كان لها تمثيل في البرلمانات السابقة. والآن تؤكد احتجاجات الشارع الشبابية بأن البشير لا يمتلك تأييدا شعبيا يستند إليه، وأن حزبه (العملاق) تمخض عن فأرٍ لا حول له ولا قوة فلم يستطع إخراج مظاهرة واحدة في طول البلاد وعرضها يرد بها على احتجاجات الشباب. ولعل ذلك ما دفعه لأن ينوي الخروج من حظيرة الحزب، ولكن تدخل من تدخل وسالت دموع الكثيرين من رجال الحزب خوفا على ضياع حظوظهم ومخصصاتهم التي يأخذونها دون وجه حق من موارد الدولة اليتيمة.
لقد حكمت الانقلابات العسكرية المستبدة السودان على مدى خمسين عاما منذ استقلاله في حين لم تحكم الأحزاب السياسية في فتراتها الثلاث سوى إحدى عشرة سنة، وبعد كل هذه السنوات من الحكم العسكري والمدني وصلنا إلى مرحلة بائسة من الفقر والمرض والعطالة والهوان على الناس! ألا تتحمل الحكومات العسكرية قدرا من هذه المسؤولية؟ وألا يتحمل الجيش مسؤولية في تأييد هذه الحكومات لأنها ما كانت ستستمر لولا سنده القوي؟ وقد حكم الشعب السوداني على الحكم العسكري الأول والثاني بإسقاطهما عن طريق الاحتجاجات الشعبية الغاضبة في 1964 و 1985 وانحاز الجيش في الحالتين إلى الوقوف مع شعبه مما جعل الانتقال سلميا وسلسا دون أدنى فوضى أو عنف، وما زال المشير سوار الذهب يحمل في ذاكرة الأمة نوط الجدارة الشعبية من الدرجة الأولى لأنه استلم السلطة في الوقت المناسب وردها إلى الشعب في اليوم المحدد لها مما أعطاه شهرة على مستوى الاقليم والعالم، تغمده الله بفيض من رحمته التي وسعت كل شيء.
ومن بين كل الحكومات تظل حكومة الرئيس البشير هي الأسوأ لأنها فصلت جنوب السودان بتسليمه لقمة سائغة للحركة الشعبية عند بداية الفترة الانتقالية، فمنحتها السيطرة على الجيش والأمن والشرطة والخدمة المدنية والميزانية المحددة ب 50% من إيرادات بترول الجنوب مما يعني امتلاك الحركة الشعبية لكل مقومات الدولة. والسبب في ذلك أن اتفاقية نيفاشا كانت في حقيقتها اتفاقية بين حزبين لاقتسام السلطة في البلاد ولم تكن اتفاقية سلام بين حكومة وحركة تمرد، وجاء الاستفتاء فقط ليشرعن الانفصال القائم أصلا على الأرض منذ بداية الفترة الانتقالية. وكانت الأسوأ في انتشار الفساد حتى وضعت منظمة الشفافية العالمية السودان في مؤخرة خمسة دول في العالم، ولا يبدو أن الرئيس البشير يرفض انتشار الفساد في الدولة فقد اعترض على قانون محاربة الفساد الذي أجيز في 2016 لأنه لم يمنح حصانة للدستوريين ورغم الاستجابة الجزئية التي قدمها البرلمان لطلب الرئيس إلا أنه لم يقم بتشكيل مفوضية محاربة الفساد إلى اليوم مع أنها اتفاقية دولية وقع عليها السودان منذ سنوات! ودرج الرئيس على تجاهل تقارير المراجع القومي السنوية والتي تذخر بالمخالفات المالية واستغلال النفوذ واستعمال الميزانية في غير أغراضها ورفض تقديم الحسابات، وعلم الكافة من المسئولين أن لا حساب أو عقاب على مثل هذه المخالفات المالية “الهايفة”! وفي عهد البشير تآكلت وتدهورت كل مشروعات السودان الكبرى: الخدمة المدنية، والتعليم، والصحة المجانية، ومشروع الجزيرة، والسكة الحديد، والخطوط الجوية السودانية، والخطوط البحرية، بل وفشلت حكومة البشير حتى في جمع النفايات من أطراف العاصمة القومية. ورغم الخطاب الفصيح المتزن الذي قدمه الرئيس البشير يوم الجمعة من منبر رئاسة الجمهورية إلا أنه لم يقدم شيئا يذكر للمحتجين من الشباب الذين اعترف بمشروعية مطالبهم، وما ذكره من حكومة كفاءات وطنية لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون فالأسماء التي أعلنها ليس فيها من جديد يذكر، هي ذات الطاقم القديم الذي يعاد تدويره مرة بعد أخرى والحقيقة أن البشير مولع بتعيين من يثق فيهم ويضمن ولاءهم لشخصه بصرف النظر عن كفاءتهم أو أمانتهم. أما الدعوة للحوار فجاءت دعوة مراكبية كما يقول المصريون لا تحدد موعدا ولا أجندة ولا منهجية ولا صفات المدعوين! ومع ذلك فقد خبر الناس دعوة الحوار الوطني الذي استمر ثلاث سنوات وانتهى إلى كثير من التوصيات الجيدة، إلا أنها لم تنفذ خاصة ما يتصل منها بالحريات ومحاربة الفساد وخصخصة الشركات الحكومية التي لا تدر دخلا للدولة وتقييد سلطات جهاز الأمن المخالفة للدستور والتوافق على قانون انتخابات وتشكيل مفوضية انتخابات. ولم يزد ما نُفذ من مخرجات الحوار عن 22% كما جاء في تقرير لجنة مجلس الولايات الذي صدر في ديسمبر الماضي. ويقيني أن البشير لا يريد الحرية ولا الديمقراطية ولا محاربة الفساد ولا التداول السلمي للسلطة مهما قال بغير ذلك.
لذا لا أرى سببا واحدا يجعل الجيش السوداني يدعم الرئيس البشير في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ السودان، وهو إذا تنحى اليوم من السلطة فسيعيش مثل ما يعيش كبار الضباط الذين يحالون للمعاش بصورة راتبة (دون ظيطة أو ظمبريطة). وننظر ماذا حدث لأعضاء مجلس الثورة في عهد عبود وأعضاء مجلس الثورة في عهد نميري، لم يُشكل أي منهم تنظيما سياسيا يستطيع أن يخوض به انتخابات سياسية رغم تميز عدد منهم في مهنته العسكرية. ولم يصبح أحدا منهم –عدا سوار الذهب- زعيما قوميا يشار إليه بالبنان، في حين احتفظ عدد من السياسيين المدنيين البارزين رغم ما لحقهم من أذى وملاحقات من السلطات العسكرية بمكانتهم السياسية وزعامتهم الشعبية شهدت لهم بذلك الجماهير الضخمة التي حضرت مراسم دفنهم: الزعيم الأزهري، الصديق عبد الرحمن المهدي، الشريف حسين الهندي، عبد الله عبد الرحمن نقد الله، الشريف زين العابدين الهندي، حسن الترابي، محمد إبراهيم نقد، الشاعر محمود شريف. رحمهم الله جميعا وأسكنهم فسيح جناته.