يبدو ان الرثاء من اصعب ضروب الكتابة، ومما يتصف بالثِقل والتَعَذُر عند الكتاب سيما ان كان المفقود عظيم الشأن.
أشحذ القلم لرثاء واحد من اعظم رجالات السودان وزعاماته القبلية.
ربما لم يلق الراحل حظه من النعي والرثاء اذ تطغى احداث السودان السياسية على المشهد.
راحلُنا هو الشيخ ناصر محمد تمساح، من اعيان شمال كردفان ومن زعمائها القبليين المخضرمين..ممن ذاع صيتهم وعلا شأنهم.
الشيخ ناصر هو ابن الراحل السير محمد تمساح سيماوي تمساح ام بدة دود ام دقينة ، ناظر عموم دار حامد، محمد تمساح سيماوي من قادة الادارة الاهلية البارزين في السودان وممن ذهب في الوفد السوداني الي انجلترا وممن تم الانعام عليهم بلقب سير، كتفا بكتف مع السير على الميرغني والسير عبد الرحمن المهدي والسير على التوم والسير عوض الكريم ابوسن. والسير محمد تمساح سيماوي ينسب الي فخيذة الهبابين التي تنتمي لعموم الفخائذ المكونة لقبيلة دار حامد التي تغلب عليها البداوة وهم من اعراب فزارة، وربما هي اقدم قبيلة عربية دخلت السودان واستقرت فيما يعرف بالبر الغربي التي هي كردفان الحالية..ويُظَنُ انها ام لمعظم القبائل العربية في السودان، فقد ورد في الأثر ان جد المجموعة الجعلية ادريس بن قيس قد جاء متقفيا اثر هذه القبيلة وأقام في ديارها وقطعا لن تخلوا اقامته بينهم من أواصر النسب والمصاهرة.
وقد اشتهر محمد تمساح سيماوي بالقاب عديدة لا تشي بشئ سوى عظمة وقيمة من تشير اليه، فهو الناظر هكذا، كلمة دلت عليه وحده في ديار القبيلة التي ترامت اطرافها غربي مدينة بارا وشمال شرقها، كما اشتهر بالسير ولم يكن هنالك من حمل هذا اللقب الفخيم في المنطقة خلافه فكان ملهما للشعراء والمغنيين..
شيخ تمساح حليلك
ياالسير المو سير قِدْ
العربان في دارو
متل الضما الفي العِدْ
الجود والفراسه
راجياك جِد عن جِد
ودار حامد عليك
ما اظن تفك الحِد
كما اشتهر الناظر محمد تمساح سيماوي بزانوق اشارة الي حزمه وقوة احكامه القضائية، وقد ساعد في انتشار هذا اللقب ،خاصة، انه جاء في ابيات اغنية “جراري” كتب لها الذيوع
الغالي تمر السوق
كان قَسّمَوهْ ما بحوق
زولا سنونا بروق
في محكمة زانوق
والشيخ ايضا من القابه، وعظمة الشيخ محمد تمساح لا تقف عند زعامته لقبيلة من كبريات قبائل السودان، ولا لنجاحه في الحكم الاهلي وانما يعود الي كرمه، ودوره المفتوحة للاضياف سواء كان ذلك في ام سعدون الناظر حاضرة فخيذة الهبابين التي ينتمي اليها او بارا حيث اتخذ “لبختها” الشهيرة محكمة له، وقد كان الشيخ محمد تمساح رجلا محبوبا لبساطته وتبسطه مع العامة وهو رجل طُرفة يُملِح فيما يستظرف به.وغير هذا فالسير كان فارسا قد ورث نبل الفرسان ومبادأتهم، فهو الي اسرة اشتهرت بالفراسة ينتسب..فجده ام بدة دود ام دقينة من الفرسان واول من تمرد على الاتراك وظلمهم..وكان رافضا لدفع الضرائب لهم وقاتلهم… حيث انه انتصر على تجريدتهم وقتل “شاكر” جابي الضرائب
وعمه امبدة ابو كندي ابن تمساح الاكبر ..جد السير محمد تمساح بانت فراسته وهو يافع.. فعندما انشدت جدته ..والدة ابيه البطل
بَرَكْ تلات بركات ما فيهن هزيلة
وِلِدْ تمساح شيخ القبيلة
ووِلِدْ سيماوي فارس المغيرة
ووِلِدْ عوض السيد البيدخل
على السلطان يشلع حجيلا
السيف وقع يا ناس منو البشيلا
فلما سمع حفيدها امبدة ابو كندي انينها وشكاتها ..
قال لها آنِيْ البَشِيلا..
قالت..إت يا وليد؟
قال..إن رديتي ببدا بيكي
فسكتت امام جسارته
وقد تغنت الشاعرة جدته حوا بت تندل بفراسته فقد كان رجلا تخافه الاسود، فقد ورد في الاثر انه اقتحم شجرة ظليلة كانت عرينا للاسود، فحمل سيفه على كتفه وسوطا بيده و”عنقريبا” مما يسمى”هبابا” ودخل تحت اغصان الشجرة المتشابكة فوجد لبوة تُحَامي عن اشبالها، فلم يأبه بها، وتمدد على “عنقريبه” فما كان من اللبوة الا ان هابته حاملة اشبالها الي مكان آخر، فتركت الرجل في حيرة يتساءل” الكلبة شالت عيالها فاتت وين؟” فغناه المغنون والمغنيات
لساني فيهو بقول
كاسر جرو الخلا اب ساجور
غني وشكري يا الصَفْرَة مستورة
فوق تلب الخلا الغابتو محجورة
يا مرض القلب الما بتخاف روبة
نوسار للخصيم لامن يموت طولة
غني وشكرنو يا التلات اخوات
لا رجفت لحِمتو ولا لسانو إنلات
السيف في يمينو بقدل على الدرقات
الخزين اخوي ومقنع الكاشفات
لعلنا قد اسرفنا في الحديث عن السير محمد تمساح سيماوي واستطلنا وهو قمين بذلك، وما قصدنا ان نُعَرِّف به ابنه الراحل الشيخ ناصر محمد تمساح فهو ليس بالنكرة الذي يُعَرَّف بوالده…فللرجل افضاله ومجده الذي بناه بنفسه، ولكن بما قدمنا اردنا ان نقول انه المجد التالد والارث التاريخي والميراث الجيني للرجل موضوع حديثنا.
الراحل ناصر محمد تمساح هو الابن الاكبر للسير محمد تمساح، اطل على الدنيا في مطالع عشرينيات القرن المنصرم، بدا تعليمه الاولي بمدينة بارا، تعلم من والده واطراف اسرته اسرار الزعامة والقيادة وقد رعاه والده رعاية خاصة، ودفع به في دورة للمحاكم الاهلية وقد لفت انتباه القضاة واهل القانون فيما اتقن من درس، وكانت النبوءة بتميزه في القضاء الاهلى وما خيب ظن من تنبأوا له بذلك.
فقد اوكل له والده امر الادارة الاهلية في دار حامد الشرقية، واتخذ “ام سيالا ود البولاد” مثابة له، ومحكمة اهلية فقد كان وكيلا لوالده في هذه الناحية. فقد انتقلت اليها المحكمة من “ابو تنيتن” بعد وفاة الشيخ بشرى ود تمساح عم الشيخ ناصر.
اشتهر الشيخ ناصر بسلامة الاحكام القضائية، وعقد المصالحات كما اشتهر بالصرامة حتى لقب بالحمى الراجعة ..ومع ذلك ظل شيخ عرب “توبو كبير” ..فقد كانت داره في ام سيالا “تكية” ومنزلة لمن لا نُزُلَ له…وقد اشتهر بالكرم الحاتمي، حتى ليقسم على حمولة لوري او باص من الركاب ان يخصهم بقِراه..
فقد رحل قَدَحٌ كبيرٌ من اقداح كردفان التي تجود بالقرى لأضياف الهجعة…ورحل رجل ائتم به الناس عقودا من الزمن ابا، حاكما وزعيما…رحل عن كردفان واحدا من راياتها ونجوم مجتمعها ..انه لفقد لأهل السودان وحام لثغر من ثغوره..
وشيخ ناصر عقد محكمتو في ام سياله
وكفات العداله يوت للصلح مياله
عارف وين مبيت غنامتو والاباله
وكل اهل القبيله
متل التكنو عياله
الا رحم الله الشيخ ناصر محمد تمساح واسكنه فسيح الجنان،والعزاء لنا ولابنائه ولأسرة الناظر والسادة الهبابين وعموم قبائل دار حامد واهل كردفان واهل السودان قاطبة.