1
يأتي يوم المرأة هذ العام والشعب السوداني في قلب انتفاضته التي فجّرها يوم 19 ديسمبر 2018. كان من مصلحة النظام العسكري الإسلامي والقوى السياسية والإعلامية المتحالفة معه أن يقتصروا على تصوير الانتفاضة بأنها انتفاضة “جياع” لا يريدون سوى الخبز. ومن الطبيعي أن يريد الإنسان الخبز ويطالب به في أي مكان فهو حق إنساني لا تقوم الحياة بدونه. إلا أن السبب الأعمق لانتفاضة أهل السودان هو جوع من نوع آخر — جوع لحريتهم وديمقراطيتهم التي سلبها إياهم النظام العسكري الإسلامي ليحيل واقعهم اليومي منذ صبيحة تلك الجمعة الحزينة يوم 30 يونيو 1989 لواقع قهر وتدمير متواصل لا ينقطع.
أراد النظام أن يصدم السودانيين فإذ به يُصاب بالصدمة. اعتقد النظام أن السودانيين قد استكانوا واستسلموا بفعل القهر المتطاول وقبضة الدين الناشبة في الحلوق فإذ بالانتفاضة تثبت أن روح أكتوبر لا تزال حيّة في صدورهم وأن جذوتها تلهم جيلا كاملا من الشباب الذين نشأوا وترعرعوا في ظل النظام واُخضعوا لآلة تشريبه العقائدي. إلا أن الصدمة الكبرى للنظام وللمشروع الإسلامي هي المشاركة الفاعلة للمرأة التي أصبحت تتصدّر المظاهرات وتشارك فيها بحشود غير مسبوقة في تاريخ انتفاضاتنا الشعبية. خرجت المرأة، رغم ما حاول الإسلاميون من غرسه في وعيها من دُونية وهامشية، لتصبح قوة مؤثِّرة في الشارع تكسر حاجز الخوف وتطيح به وهي تهتف وترفع شعارات الثورة وتستنشق غازات قنابل قوى القهر غيّر هيّابة وغير آبهة (تلك الغازات التي أصبحت “دخانها” الجديد). وفي قلب كل ذلك تشحذ سلاحا تاريخيا — تزغرد. تنطلق الزغرودة لتطلق وعدَ الفرح بغد منتصر فتندفع موجات المتظاهرين بإصرار وهم يواجهون رصاص قوى القهر. الثائر تلهبه شرارة الزغرودة ويحتضنه ومضها ويلفّه شعاعها، والقاهِر لا زغرودة وراءه وإنما هي الرغبة المجرمة المدمّرة لاجتثاث الحياة وهو يطلق الرصاص يمينا ويسارا، وكأن الرصاص قادر على إسكات الزغرودة وقتل وعدها.
2
خسرت الغالبية الساحقة من السودانيين في ظل المشروع الإسلامي ولكن المرأة كانت من أكبر الخاسرين. ولحسن حظ السودانيين أن المرأة كانت قد حققت الكثير في عقود ما بعد الاستقلال الثلاثة التي سبقت انقلاب الإسلاميين لتصبح قوة اجتماعية واقتصادية لها وزنها الذي ما كان من الممكن للإسلاميين كبحه أو تجاهله. وفي واقع الأمر فإنهم حاولوا كسب النساء ونشطوا وسطهن وخاصة في مجال الحركة الطلابية وروّجوا بينهن كتيبا لحسن الترابي لم يعدو أن يكون تردادا للادعاءات المألوفة والمكرورة في كتابات الإسلاميين عن المكانة المتميّزة للمرأة في ظل النظام الإسلامي الذي وفّر لها من التكريم والحقوق ما لم ولن يتوفّر لها في ظلّ أي نظام آخر.
ومنذ اليوم الأول لانقلابهم شنّ الإسلاميون أكبر هجمة على حقوق السودانيين اعتقالا وتعذيبا وقتلا وفصلا وتشريدا وتمييزا وترويعا. وفي ظل هذا المخطط العام كان لهم مخطط خاص يتعلّق بالمرأة وهو بعث ما يستطيعون بعثه من مظاهر تمييز الشريعة ضدها. كان التطوّر الذي حقّقه الوضع السوداني قد تجاوز المرحلة التي من الممكن أن يتمكنوا فيها من إعادة عقارب الساعة للوراء ليقوموا مثلا بفصل الطالبات عن الطلاب في الجامعات أسوة بجامعة أم درمان الإسلامية. وما كان من الممكن أن يعيدوا كل النساء العاملات في مختلف المجالات الخدمية أو الإنتاجية لمنازلهن. إلا أن الإسلاميين وعبر انفرادهم بالسلطة استطاعوا أن يفرضوا الانتكاس في وضع النساء على مستويين: مستوى فرض زي “شرعي” تتعرّض المرأة للمساءلة القانونية والمعاملة المهينة والمضايقة إن لم تلتزم به، ومستوى تكريس الوضع التمييزي لقانون الأحوال الشخصية الذي كان موجودا أصلا منذ الفترة الاستعمارية وفي ظل كل الحكومات الوطنية.
إن التمييز ضد المرأة المسلمة ووضعيتها كمواطن من الدرجة الثانية (في وضع قانوني يصبح فيه الرجل المسلم مواطن الدرجة الأولي وغير المسلم مواطنا من الدرجة الثالثة) يصل في أقصى حالاته حد انتهاك حُرمة جسد المرأة عندما يصبح العنف البدني ضدها أمر مشروعا تبيحه الشريعة وينحاز له الحاكم. وهذا التمييز والانتهاك سيظل قائما طالما ظلت الشريعة هي المرجعية القانونية فيما يتعلق بأحوال المرأة.
3
إلا أن ما يحاول المشروع الإسلامي في السودان فرضه من إدامة وضع يتحقّق فيه استسلام المرأة وقبولها لدُونيتها وضعٌ لا مستقبل له لسبب أساسي: التعليم. لم يستطع إسلاميو السودان أن يترسموا خطى طالبان الذين انتبهوا لخطر تعليم المرأة وكيف أنه من الممكن أن يفتح الطريق عريضا لتصدّع المشروع الإسلامي وانهياره فوجّهوا طاقتهم لحرمانها من التعليم. الوضع المتقدّم في السودان، الذي بدأ فيه تعليم المرأة عام 1903، لم يسمح للإسلاميين أن يفعلوا ما فعلته حركة طالبان. وعندما نتحدّث عن التعليم كقوة أساسية تساهم في تحرير المرأة فإننا لا نعني بالطبع التعليم الديني والذي هو في جوهره تعليم تلقيني تشويهي يهدف لصياغة وعي المرأة وعجنه لتستبطِن دُونيتها وتقبل أنها ناقصة عقل. إن ما نعنيه هو التعليم القائم على المساواة بين المرأة والرجل والذي يفتح مصاريع كل الميادين لتدخلها المرأة صانعة للمعرفة وقوةً منتجة. هذا التعليم هو ما تتحقّق وتزدهر به إنسانية كل فرد في المجتمع من امرأة ورجل ومن صغير وكبير.
إن نظام التعليم السوداني، على كل علّاته ورغم التشويه الذي ألحقه الإسلاميون به على مدى العقود الثلاثة الماضية، قد فتح أمام المرأة من النوافذ والفرص ما أكسبها وزنا اجتماعيا واقتصاديا غير مسبوق. فحلم الإسلاميين، حتى الإصلاحيين منهم مثل محمود محمد طه، بأن المرأة مكانها البيت، قد انهار وتجاوزه الواقع. إن هدير نساء السودان في الشوارع الآن هو هدير جيل جديد يرفض الخنوع ويرفع راية حريته ومقاومته التي لن تقف عند حدّ إسقاط النظام، فهذا هدف قريب انضمّ له حتى بعض الإسلاميين، وإنما ستتواصل حتى تزول كل أشكال التمييز والعنف ضد المرأة والحطّ من كرامتها وحتي يدرك كل السودانيين أن المرأة مساوية للرجل وأن مجتمعهم لن يستطيع تحقيق إنسانيته وإنجاز تقدمه ورقيّه إلا بمشاركتها الفاعلة.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مركز الدراسات النقدية للأديان.