أخي السفير الشعبي في سيؤول- كوريا، محمد آدم عثمان. .
في أيام الثورة ومجد شبابها، رحل صديقنا السفير الكبير
في يوم الجمعة 22 فبراير 2019 نؤرخ يا أخي وصديقي ، لرحيل وافق غضاب الشباب وحراكه الوثاب لإنضاج ثورته التي ستدك عمائر الطغيان على من بنوها ، وسيدحر غبار فوران الشباب، دخان الغدر المسيل للدموع في طرقات الخرطوم ومدن السودان الأخرى، التي هبت مع الخرطوم في جنح الدجى . كان الحبيب عطاء الله – كما كتب الإسم المعلم منصور- يتابع عن كثب مجريات الثورة ، وحواراتنا الهاتفية لا تنقطع حول ضرورة أن يكون للدبلوماسية السودانية صوتها الذي لا يتلجلج في وطنٍ، من فرط ما لحق به من تشويه، كدنا أن ننكره تماما.
قبل رحيله بنحو اسبوعين، لحق بنا في نادي الدبلوماسي يوم تداعينا- ونحن زمرة من السفراء المتقاعدين- لأن نلتقي ونتفاكر حول الذي يمكن أن تقوله الدبلوماسية السودانية ، عن مآلات أحوال الوطن، فيما قمع الحراك يجرى على قدم كتائب الظل، وعلى ساق مليشيات بلا هوية. الملثمون المدججون بالرصاص وقناصة السلطة، يوجّهون فوهات بنادقهم باتجاه صدور الشباب . تداعينا لكن السلطة منعت لقاءنا في نادٍ كنا نحسب أنفسنا مالكيه. للمرّة الأولى ربما، أرى صديقي عطاالله ، في أقصى حالات الانفعال. قال لي :
– أنتَ السفير والإعلامي، يا جمال.. كيف فات عليكم إبلاغ أصدقائكم الصحفيين لرصد منع السفراء من الإجتماع في دارهم . .!
كان الرجل على حق . هي لحظة لو اصطادها الإعلام ، لكانت موقفاً مسانداً بلا شك، من سفراء متقاعدين لشباب هبّ لانقاذ الوطن، إنقاذاً صادقا – لا إنقاذاً زائفاً، كالذي عشناه لثلاثة عقود خلت. هم سفراء متقاعدون لكنهم، وبثراء خبراتهم، هم في مصاف حكماء الأمة، ومن حراس إرثها ومجدها، ومن رعاة شبابها الطامح لاستعادة الذي ضاع ، من كرامة ومن عدل ومن اقتدار .
أقول لك صادقاً يا أخي محمد ، أنّ الراحل، وقد زاملناه في وزارة الدبلوماسية سنين عددا، ثم تابعنا مسيرته المهنية في البعثات الدبلوماسية التي تولاها، حتى تحوّله لقيادة منظمة التصحر والتنمية في شرق أفريقيا، والتي صارت تعرف لاحقاً بمنظمة “الايقاد” ، لم ير أحد عليه إمارة من إمارات الغضاب أو الامتعاض أو الانفعال. ومن إسمه فقد كان عطاؤه في الأداء الدبلوماسي مما شهد له به دبلوماسيو دول الايقاد الست، إذ هم من انتخبوه قبل أن تنتخبه بلده. .
ومن اسمه، فقد كان عطاؤه في التسامح لا يحدّ ، لم يحمل غلاً ولا ضغينة ، بل حملتْ ملامحه الابتسام والبشاشة والأريحية وحسن الطوية . .
ومن إسمه، فقد كان عطاؤه غير منقطع للبلدة الصغيرة التي انحدر منها : “ملواد”، إلفاً وتوادداً وتحابباً وبراً. .
يكفي يوم رحيله أنه سقط في بيت أسرته الصغيرة، في ضاحية أركويت، وهو ينتوي الخروج في زيارة راتبة للسيدة والدته، درج على القيام بها كلّ يوم جمعة. .
أما عطاؤه للدبلوماسيين الشباب، فكان إهداءه عصارة تجاريبه في الحياة وفي المهنة الدبلوماسية ، وبسطها لهم في كتابٍ هو أميز ما كتب دبلوماسي عن مسيرته المهنية، إذ عكف على تفاصيل كان غيره يتجنبها ، وأفصح بصادق العبارة ، عن محاسن ما مر به، وأيضاً عمّا جابه من تحديات وما صارع من منغصات ومثالب. الجراحات عنده هي مدارج لنجاحات في المنعطف، وليست سوانح للنكوص أو الإنكسار. .
أخي محمد. . أغالب حزني حتى لا تهرب الكلمات من قلمي ، ولكني بالفعل حزين . وقفتُ في أمسية التأبين مغرب يوم السبت 23 فبراير ، أدرتها وأنا أخفي بين كلماتي ما اعتصرني من عبرات. ظللتُ أنظر هنا أو هناك ومئات المعزّين يضمهم ذلك السرادق الحزين . . وأصدقك القول فقد حسبتُ أن صديقي عطا الله ، قد يدلف ويفاجؤنا من برزخه الآمن، فيهمس لي بابتسامه الوضيء:
– أنا هنا بينكم . . ماذا تقولون عنّي وأنا هنا بينكم. . !
رحم الله سفيرنا وحبيبنا وصديقنا أبا طلال. . لم نفقده نحن ، بل فقده الوطن . .
الخرطـــــوم- 5 فبراير 2019