القاضي تاج الدين إدريس الذي حكم على النساء المتظاهرات بالجلد (مع السجن) وإصراره على تنفيذ الجلد فور صدور الحكم دون مراعاة للحق القانوني للمحكومات في الإستئناف والذي كان – حتماً – سوف ينتهي إلى نقض العقوبة، ولكن بعد تنفيذها، هذا قاضٍ غشيم وليس له في القانون ولا المعرفة بالحياة، ويستحِق الزفّة المُهينة التي سُيِّر بها بعد خروجه من باب المحكمة.
مشكلة هذا القاضي أنه لم يطلِع على السيرة الكاملة لما إنتهى إليه القضاة الذين خرجوا عن النص وداسوا بأحذيتهم على قواعد العدالة والقانون بالميل نحو الشطط والغلواء في تنفيذ أحكام الطوارئ التي كان قد وضعها النميري عام 1983 وفي ظروف مُشابهة للتي تحدث اليوم، ففي تلك الفترة جنح قضاة طوارئ مثل تاج الدين إلى توقيع عقوبات ظالِمة وبالغة الغِلظة في محاكمات إيجازية لا تُدوّن فيها البينة كاملة ولا تتوفّر فيها فرص كافية لدفاع المتهمين، وكان من بين أولئك القضاة من يُباري إخوانه في إستنباط أحكام تستنِد على أقوال فقهية ضعيفة لم يأخذ بها قاضٍ قبله منذ نزول الإسلام، من بينها ما حكم به قاضي طوارئ محكمة الخرطوم شرق (القاضي عدلان النعيم الضو) الذي كان قد حكم بقطع يد سارق وأمر بتعليق اليد المقطوعة على كتفه في ميدان عام لنهار كامل وليلة.
لم يطّلع القاضي تاج الدين على سيرة هؤلاء القضاة الذين سبقوه في الغلو والشطط ليعرِف المصير الذي إنتهوا إليه. والذي لا خلاف حوله أن الدافع الوحيد الذي يحمل قاضٍ مهني يؤمِن بقواعد العدالة الطبيعية والحقوق الدستورية للمواطنين لأن يُحيد عن ذلك بتطبيق قواعد إستثنائية يفرضها نظام سياسي، بهدف تثبيته وخدمة لأهدافه، لا شيئ يجعله يفعل ذلك غير أن يكون القاضي من هذا أبناء التنظيم السياسي المُعيّن، وبطبيعة الحال، ينتظر القاضي الذي يقبل على نفسه ذلك أن يحصد ثمن هذه الموالاة في الدنيا قبل الآخرة بترفيع مقامه ومركزه بما يُجاوِز به أقرانه، وهذا بالضبط ما حصل عليه قضاة الطوارئ في الفترة التي أعقبت توقيع قوانين سبتمبر 1983 المكاشفي طه الكباشي وحسن إبراهيم المهلاوي، وكلاهما كانا حتى قبل يوم واحد من تعيينهما بمحاكم الطوارئ، وكان كلاهما يتباريان على المغالاة في تطبيق أحكام الطوارئ بتوقيع عقوبات الإعدام مع الصلب وقطع الأيدي والسجن المؤبد في جرائم ظل يُحكم على مرتكبيها خلال الثلاثين سنة الماضية وهو تاريخ وصول التنظيم الذي كان يدعم تطبيق هذه العقوبات ووقف خلفها بعقوبات عادية مثل السجن المؤقت والغرامة وتوقفت المحاكم عن تطبيق مثل هذه العقوبات.
بيد أنه فيما بعد، لم يدفع شخص ثمن السيرة النتِنة لتلك الفترة مثل القضاة الذين طبقوا أحكام تلك الفترة على النحو المذكور، وقد كان تنظيم الجبهة الإسلامية القومية الذي كان وراء سن قوانين سبتمبر 1983 وكان يُشجِّع قضاة الطوارئ على تطبيق تلك العقوبات، هو أول من تخلّى عن أولئك القضاة وتنكّر لهم إستِحياءً من الأحكام التي كانوا يؤيدون تطبيقها، بعد إستيلاء التنظيم على الحكم بإنقلاب الإنقاذ، فالإنقاذ التي لم تترك شخصاً من أواسط “الكيزان” إلاّ وعهدت إليه بوزارة أو منظمة أو هيئة لرئاستها، تنكّرت لقضاة الطوارئ الذين إستبسلوا في خدمة ما كانوا يُنادون به من تطبيق للشريعة، وطوال عمر الإنقاذ لم يتم تعيين المكاشفي أو المهلاوي أو فؤاد الأمين عبدالرحمن في أيِّ منصب بالقضاء أو في أيِّ موقع بجهاز الدولة، وقد تركت المكاشفي طه الكباشي يدور حول نفسه وحده وهو يُجاهِد من مسيده في إصدار الكتب والمقالات التي تُبرر حكمه بإعدام الأستاذ محمود محمد طه. (قضت المحكمة العليا بعد ثورة أبريل المجيدة بعوار الحكم وبطلانه).
لن يقتصِر الثمن الذي سوف يدفعه القاضي تاج الدين إدريس على الزفّة التي شيّعته وهو يسير مُطأطأ الرأس من مبنى محكمته بعد إصداره الحكم بجلد النساء المتظاهرات، وهو حكم مُخالف لقانون الطوارئ نفسه الذي ينص على عقوبتي السجن والغرامة وحدهما، وسوف تتبع القاضي تاج الدين هذه السيرة كظله حال حياته، وسوف تُسطّر في كتب التاريخ كما فعل بسيرة أقرانه القضاة العسكريين والمدنيين الذين مارسوا الظلم والعسف في المحاكم العسكرية ومحاكم الطوارئ من قبل.
في المقابل، من الواجب علينا أن نُشيد بالقضاة الذين ساروا وراء ضمائرهم ورفضوا المشاركة في مهزلة الطوارئ، ومن بينهم القاضيين عاطف محمد عبد الله وأحمد الناطق، وقد رفض الأول المشاركة فى محاكم الطوارئ فيما جاهر الثاني بإعتراضه عليها، وقد تعرّض كلاهما نتيجة ذلك للإحالة لمجلس محاسبة، كما نُشيد بقضاة آخرين ورد أنهم توسّعوا في إيجاد المخارج لتبرئة المتظاهرين وكذلك بقضاة محكمة الإستئناف الذين أبطلوا أحكام السجن التي أصدرها بعض القضاة على المتظاهرين.
هذا شيئ يُثلِج الصدر، ودليل على أن هناك قضاة أصحاب ضمير وظلوا على مبادئهم برغم ما يتعرضون لع من ضغوط وإستقطاب، وبرغم ما طال القضاء من تسييس خلال الثلاثين سنة الماضية. نعم، هناك قضاة شرفاء، والدنيا لا تزال بخير،،