في العام 1989 وقبل انقلاب الانقاذ كانت الحياة طبيعية في كل أنحاء البلاد عدا الحرب التي كانت تدور في جنوب الوطن وكان الحل الجذري لهذه الحرب قاب قوسين أو أدنى قبل الانقلاب المشؤم. في ذلك الوقت كان سعر الدولار الرسمي في “البنك” يساوي 8 جنيه سوداني و في “السوق الأسود” 12 جنيه.. كان العامل عصرئذ يتقاضى أجرا شهريا يكفيه طوال الشهر لإعالة اسرته مع تناول ثلاث وجبات في اليوم تتصدر فيها اللحوم الحمراء والبيضاء المائدة في الاسبوع الاول من الشهر، والفواكهه حتى الاسبوع الثاني منه، ثم من الاسبوع الثالث الى نهاية الشهر تتسيد الموائد فتة العدس وأخواتها… عندما ما وقع الانقلاب كان السيد/ الصادق المهدي رئيس الوزراء، الذي انتخبه الشعب، قد حكم ثلاث سنوات، وكان قد تسلم الحكم من نظام عسكري سبقه حكم البلاد 16 عام، وخلف تركة كبيرة من الديون الخارجية والتشوهات الاقتصادية… ومع ذلك كانت الدولة تدعم كل السلع الاساسية و ترصد ميزانية ضخمة للتعليم والصحة… لم يكن هنالك فسادا أو محسوبية أو تمكين.. وكانت الصحافة تمثل سلطة خامسة تحاسب على كل شاردة وواردة رغم أن بعض الصحف المحسوبة على الحركة الاسلامية مارست فوضى غير أخلاقية كان الهدف منها تهيئة الشارع لتقويض النظام الديمقراطي… كانت الحكومة تتمتع بسند برلماني تجاوز 85% أي كل الطيف السياسي عدا الجبهة الاسلامية التي عزلت نفسها ورفضت المشاركة في حكومة القصر.. في ذلك الوقت لم يخرج على الحكومة مواطنا واحدا في مظاهره يطالبها بالرحيل رغم أن القوانين التي كانت تسمح لهم بتنظيم مظاهرات تحميها الشرطة..و مع هذا تآمرت “الجبهة الاسلامية” سابقا “المؤتمر الوطني” حاليا مع عناصرها في القوات المسلحة بقيادة العميد/ عمر حسن البشير والتي ذهب فيها زعيم الحركة المدني الى السجن حبيسا وزعيمها العسكري الى القصر رئيسا..
الاكشن الآن:
منذ 19 ديسمبر 2018 وحتى كتابة هذا المقال خرجت الجماهير في كل مدن السودان وفي القرى والبوادي تطالب البشير و نظامه بالرحيل تحت شعار “تسقط بس”… شعار مختصر لكنه يحتوي كل معاني السقوط… فالنظام الذي ظل يحكم طوال 30 عام أهدر كل موارد البلاد وتعامل مع السودان كأنه نظام استعماري وليس حكما شموليا وطنيا.. حرص على نهب ثروات البلاد حيث تم تجنيب أموال البترول والذهب ولم تدخل في ميزانية البلاد ودخلت في حسابات بنوك خارجية لصالح سدنة النظام.. وشهدت البلاد سرقة منظمة حيث بيعت المؤسسات والشركات والهيئات الحكومية الرابحة والخاسرة بابخس الاثمان ولم تسلم من ذلك العقارات المملوكة للدولة في الدولة الاجنبية… واستشرى الفساد في كل موقع وركن داخل النظام و منظومته الهمباتيه.. وتدهور قطاع التعليم والصحة بعد تخفيض ميزانياتهم بما يكفي فقط لتغطية بند المرتبات.. وظل العجز في ميزان المدفوعات في تنامي رهيب سنويا.. وبالعودة الى العام 1989 ووضع البلاد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتبريرات التي قام عليها إنقلاب ومن ثم العودة الى العام 2019 نجد أن ما كان عليه في 89 هو وضع مثالي جدا ودولة رفاهية مقارنة بما هو عليه الحال في 2019 فبدلا من قمع المظاهرات وقتل المحتجين بدم بارد واعتقال الشرفاء وتكميم الافواه ومن ثم إعلان حالة الطوارئ كان على البشير أن يعيد ما فعله في 89 و لكن بسناريو آخر وهو التنحي وتسليم السلطة للشعب والاستعداد للمحاسبة هو وزمرته.. وللاسف الشديد أن البشير يفكر في سيناريو آخر فرغم كل هذا الدمار والخراب بدأ متحمسا للترشح في 2020 لولاية أخرى مؤكدا ضرورة تعديل الدستور له حتى يكمل التنمية التي بدأها في البلاد.. مشكلة هذا الرئيس أنه يكذب ويصدق كذبته فأين هي التنمية التي يتكلم عنها الرئيس.. كان من الأفضل أن يقول أنه يتقدم للترشح لولاية سادسة لإكمال دمار السودان وكنت سأكون من أول المؤيدين له والسبب أنني لا أؤمن بالترقيع والترميم فبناء السودان من جديد وبأسس جديدة يحتاج الى هدم كامل للقديم و البشير أفضل من يقوم بهذا الدور وأعتقد أنه منذ 19 ديسمبر 2018 الى الآن قد أجهز على ما تبقى من أساس متهالك و لم يتبقى الا الرحيل لنضع لبنات أساس السودان الجديد. سودان الدولة المدنية، دولة الدستور حيث المواطنة هي منشأ الحقوق والوواجبات بغض النظر عن العرق، اللون، الدين الخ.. دولة تكون فيها العلاقات واضحة بين الدين والدولة.