قرأت كلمة للأستاذ شوقي بدري “الإنقاذ وما بعد
الانحطاط” (11 مارس 2019) أطنب فيها تزكية لأمن الفريق إبراهيم عبود
(1958-1964) في مقارنة له بنظام الإنقاذ. وكعادته استغفله منهجه الحكائي الذي يشرق
ويغرب فيه مع مفردات متقطعة (مثلاً شيوعي مع رجل أمن) فيها لمسة إنسانية لتنحجب
عنه صورة النظام العامة كديكتاتورية موطدة الأركان بمؤسساتها وقوانينها. ونرسم
بمثل مقال شوقي دولة الإنقاذ نسيج وحدها غير مسبوقة فيما تقترفه من مصادرة للحقوق
الأساسية والعنف. ومتى لم ننسب الإنقاذ إلى نظم الاستبداد التي سبقتها ضللنا عن
التراكيب الاجتماعية والتاريخية في مجتمعنا التي ما قطعنا رأساً لغول منها
استعوضته بآخر. وهكذا دواليك. وهذه كلمة أردت بها أن نعرف من أين جاء هؤلاء الإنقاذيون
الذين يصر بعضنا على أنهم مخلوقات من فلك دوّار للأشرار الخلص).
انتهت طغمة نوفمبر الي شيء من القبول عند بعض العامة
والخاصة. وقد يصدق عليهم قولنا إن الكلب يحب خانقو . . . الأول. ويثني البعض عليها
بزعم انها استسلمت للإرادة الشعبية بغير ملاواة مع أنها أزهقت في أكتوبر أربعين
نفساً في مدن البلاد المختلفة. وظلت تتمسك بالحكم في مشاورات بالقصر الجمهوري حتى
طوقها جنود بقيادة اللواء لاحقاً الباقر أحمد، نائب رئيس الجمهورية في دولة مايو،
مكلفين من اجتماع لشباب الضباط بحامية الخرطوم. وجاؤوا ومعهم خطاب تنازل المجلس العسكري
عن الحكم بدلاً عن خطاب كان الفريق عبود على وشك إذاعته دعا فيه المجلس المركزي
(برلمانه المزور) للاجتماع لمناقشة الأزمة السياسة.
نشأ خلط للكثيرين منا حول طبيعة طغمة نوفمبر من فساد
منهج معارضي الطغم اللاحقة. فقد تبنوا بغير حاجة فكرة أن الطغمة المكتوين بها في
يومهم نظام لم يقع لنا من قبل “وورانا جديد ما كان علي بال”. ولهذا غابت
عن وعينا شفرة نوفمبر التي هي في صميم كل الطغم. ومن الجهة الأخرى ركزت المعارضة
على الاحتفال بثورة اكتوبر كأداة مجردة لتغيير النظم وليس كحدث تاريخي لا يستقيم
فهمه بغير تحليل نظام نوفمبر.
الرابط بين نظام الإنقاذ ونظامي نميري وعبود هو عداؤها
جميعاً للديمقراطية. ونظام عبود هو المباءة الأولى لهذا العداء. فهو، في لغة
التصوير، “النجتيف” الذي استنسخ نظامي نميري البشير. فقد صادر عبود
الحوار الوطني الذي دار حول منهج الحكم آنذاك بما فيه مسألة الفدرالية، وجدوى عرض
المعونة الأمريكية لنا في ملابسات الحرب الباردة. ولم تقبل دوائر واسعة منا بهذه
المعونة التي كانت الإغراء للدخول في مشروع الرئيس الأمريكي أيزنهاور الذي زين
للدول حديثة الاستقلال الدفاع عنها في حال تعرضت للهجوم من قبل الاتحاد السوفياتي.
وكانت أمريكا قررت من جانبها أنه العدو الذي ينبغي أن تتحوط منه تلك الدول بإرادة
أمريكا لا بإرادتها التي ما تزال طفلة بعد استقلالها. وتحالف المعارضون للاتفاقية
ونظموا موكباً للاحتجاج عليها يوم 21 اكتوبر 1958 الذي اقتحمه السفير الأمريكي
آنذاك لسبب غامض ما يزال. وصور الانقلابيون هذا الحوار بأنه قلاقل استحقت القمع
والوصاية. وقد رد اتحاد طلاب جامعة الخرطوم على هذا المنطق بمذكرتهم لنظام عبود ل
في سبتمبر 1959 قائلين: “وكنا نري منذ البداية أنه في ظل الديمقراطية لا في
غيبتها يتدرب الشعب علي الحكم النيابي والاستمساك به”. وهكذا فرط الانقلاب في
عادة الديمقراطية، وارسي عادة الاستبداد باستفراد الجهاز التنفيذي بالحكم بدون
سلطات تشريعية وقضائية أو بعكمهما وتسخيرهما للزود عنه. وفشت العادة في الحكومات
الديكتاتورية من بعده. فأفرغوا السياسة من الشعب مصدر السلطات.
لقد اخذت الطغم اللاحقة قسماتها الدميمة كلها من نطفة
نوفمبر الأولي. فقد اصدرت قانون دفاع السودان (1959) الذي أساء للعدل بسنة المحاكم
العسكرية للمدنيين والاعتقال التحفظي. وتعدت على حرية التنظيم بإلغاء قوانين العمل
النقابي لتستبدلها بأخرى موسوسة مثل قانون نقابات العمال 1960، وقانون رقم 9
لاتحاد طلبة جامعة الخرطوم، وقانون المجلس المركزي بديلاً عن البرلمان. وصادرت
استقلال الجامعة حتى ضمتها للتربية والتعليم في 1963.
وأرادت تأميم الصحافة وتراجعت لتكتفي بصحيفة لسان
الحال، الثورة، التي اشتهرت بنداء بائع لها كان ينادي: “البرش بقرش” إشارة
إلى حجمها الأكبر من الصحف التي تعودها الناس. وضيق نظم عبود علي الصحف تضييقاً
جعل الكتابة مستحيلة. وشملت قائمة المحرمات: “الكتابة عن كيشو ولجنة نادي
الهلال” و “التعرض بالنقد للإذاعة ومراقبها التاج حمد”. وبدأت
الطغمة حرب الجنوب الثقافية باستخدام الأسلمة والتعريب كأدوات حكومية. فقد هدفت
“البلدوية”، المنسوية الى علي بلدو مدير الاستوائية، عكس مجري السياسة
الاستعمارية بنشر الاسلام والعربية بدلاً عن الانجليزية والمسيحية. واحتج الجنوب
على ذلك حتى توج ذلك بتأسيس حركة أنانيا. وعلقت نوفمبر رفاق السلاح المعارضين على
المشانق، وقتلت الأنصار في المولد، ورحلت جماعة النوبة التاريخية من موضعها بغير
استئذان. وقد مشت الطغم اللاحقة على دربها. ولم ترحل عن الوطن إلا بعد قتل أربعين
نفساً.
ومتى كان عهد الفريق عبود بعض “الزمن
الجميل” المشهود صارت ثورة أكتوبر إما عملاً مرتجلاً لا لزوم لها أو أنها،
متى احتفلنا بها واستلهمناها، أداة مجردة للإطاحة بالنظم، لا ثورة على نظم بعينه
وخصائصه بدأ الحرب ضد الديمقراطية ذات الفحيح والأوار إلى يومنا.
IbrahimA@missouri.edu