العصيان الأول ،كما الاضراب العام الاول، لم يكن الاخير، طالما انه لم ينته باسقاط النظام ، فسيعقبه ثان، على الاقل، وفق ما يمكن استشفافه من تجربة الاربعاء، 11 مارس. وقد كان شأنه، شأن اضراب 5مارس ، العام، اختباراً لجاهزية الجماهير وقياس قدراتها واستعدادها لمعركة الحسم والظفر،من جهة ،واستكشاف فعالية الاجراء ونجاعته، من ناحية أخرى.
ويستفاد من عديد من الشهادات ، ان العصيان قد نجح مثلما نجح الاضراب العام، قبل اسبوع، وهو نجاح نسبي طالما انه قصر عن اسقاط النظام، ولم يتعد كونه تمريناً ثوريا للقوى.وهو نسبي بقياس فعل العاملين في القطاع الخاص ومشاركتهم في الاضراب والعصيان ، الى مشاركة العاملين بالقطاع العام، والعاصمة الى الاقاليم،وتعكس المحصلة الاجمالية ، للعصيان، كما للاضراب الذي سبقه، ،والذي يقصر ، بشكل ملحوظ ، عن استيعاب كامل جغرافية الحراك الشعبي خلال ثلاثة اشهر ، منذ بدايته في الدمازين في 12 دسيمبر الماضي، القدرات الحقيقية لقوى اعلان الحرية والتغيير،في الزمان والمكان المحددين.
قد لايكون مطلوبا من التجربة، بشقيها، اختبار او انضاج صيغة كلاسيكية للاضراب السياسي العام والعصيان المدني ، مستعارة من خبرة ثورة اكتوبر عام 1964 او انتفاضة مارس – ابريل عام 1985،او حتى من تجربة الاعتصامات في الثورة االمصرية، التي اطاحت بحكم مبارك، لاختلاف السياق التاريخي للتجربة . فنظام الانقاذ ليس هو نظام نميرى او حكم عبود.فقد عمل الاسلاميون، الذين خرجوا على قواعد اللعبة البرلمانية بالاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري في 30 يونيو عام 1989، على تأمين النظام الذي اسسوه على القمع، أبتداء، بحزمة من الاجراءات والتدابير البوليسية، التي من شأنها ابطال كافة الصيغ والاساليب النضالية التي استخدمت في اسقاط نظامي عبود ونميري، بمصادرة الحريات كافة، أولا ، بمافي ذلك حل الاحزاب وملاحقة كوادرها، وتصفية النقابات بتحويلها الى زوائد ملحقة بالجهاز السياسي والامنى والبيروقراطي للنظام ،وكذا على مستوى القوى ذات الشوكة، للحيلولة دون انحياز القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى، للشعب عند قيامه بالثورة .
بالتالي، لم يعد من واجب الثورة اتباع وصفات أوتجارب بعينها، من الداخل والخارج، للتصدي النضالي للنظام واسقاطه ، وانما يتعين عليها ان تبتدع طريقتها الخاصة ، وفق شرطها التاريخي ، للإطاحة بالنظام، وتأسيسا على المعطيات القائمة على الارض، أي وفق معادلة تستبعد دوراً حاسما للنقابات والقطاع المنظم من العاملين( من تبقى من “مجازر” الخصخصة والتشريد باسم الصالح العام والتمكين…الخ).ووفق خبراء في هذا المجال ، فان 90% من العاملين بأجر يوجدون في القطاع الخاص ، غير المنظم ، بينما انحسرت نسبة العاملين بالاجر في القطاع العام الى 10%،وهو ماذهب اليه الخبير النقابي ،محمد على خوجلي ،في مقال له عن الاضراب العام.
يتعين على الثورة ، إذن ، تصميم ضربتها القاضية ، بعيدا عن الاعتقال داخل الوصفات الجاهزة واصطلاحاتها، من مركب من الانشطة الجماهيرية المجربة ، والتي اثبت جدواها خلال المنازلات الجارية ، والتي تشمل الاضرابات والتظاهرات والوقفات الاحتجاجية والعصيان المدني وغيرها من الاشكال التي تبدعها الجماهير، وفق ظروفها واوضاعها الملموسة في كل منطقة سكن او مجال عمل، وبقيادة لجان المقاومة المختلفة .( اشار تقرير لمهادن الزعيم نشرته الهدف ، عن الاستجابة لنداء العصيان الى ان سكان الشعبية ، بالخرطوم بحري قد جمعوا التظاهر والاضراب الى جانب الاعتصام ، حيث تجمعوا في مكان واحد).
قد يكون تحديد موعد للضربة القاضية مهما، لاغراض التعبئة والتنظيم والتنسيق الخ، لكنه مهم ايضا، في سياق التسابق مع قوى الثورة المضادة ، التي تراهن على انحسار المد الثوري والنشاط الجماهيري مع تطاول امد الصراع ، دون ارهاصات حسم في الافق ، وعلى امكانية قطع الطريق على الثورة واختطاف المبادرة من قوى اعلان الحرية والتغيير، وفرض تسويات بمساعدة بعض مراكز القوى الاقليمية والدولية ، الناشطة في مساعي ايجاد مخرج آمن من الازمة يمكن من المحافظة على النظام وجوهره ، ببديل زائف. مثلما يراهن النظام نفسه على امكانية اكتساب حصانة جديدة في مواجهة الفعل الثوري الشعبي ، بابتكار وابتداع وتطوير حيل وتدابيرجديدة تمكنه من البقاء لفترة اطول. لايقتصر التنافس والصراع حول مستقبل البلاد على تلك القوى ، حسب، اذ ان مضمار السباق ، يتسع ايضا، لفسيفساء اسلاميين يتوزعون على العديد من المبادرات ، المحلية والاقليمية والدولية ، وينشطون في اطارها، ايضا، بجانب قوى مرتبطة بخارطة الطريق الافريقية ، لازالت تراهن على الحوار مع النظام ، وترجحه على خيار الثورة ، الذي يلخصه شعار:” تسقط.بس”، في اشارة لرفض الحوار والتفاوض ، الا على تفكيك النظام ” صامولة ..صامولة “، وفق مقولة الاستاذ محمد ضياء الدين ، القيادى بحزب البعث العربي الاشتراكي.
لقد دخل العصيان العام ، حيز الفعل ، ليندرج مع الاضراب العام المتعدد الاطراف، ضمن الانشطة الجماهيرية الثورية الاخرى ، ليساهم في اغنائها وتصاعدها في مجرى الممارسة اليومية للاحتجاج ، وصولا الى الصيغة الميدانية المثلى للضربة القاضية ، والتي قد تاخذ شكل مركب من اضراب عام وعصيان مدني غير كلاسيكيين.عبر الممارسة النضالية المثابرة ، وليس التجريب. فقد انقضت مرحلة التجريب.
حتى ذلك الحين ، يتعين على قوى اعلان الحرية والتغيير، تحسين ادوات عملها، السياسي والاعلامي والتنظيمي …الخ ،لتحشيد المزيد من الجماهير وتعبئتها، واجتذابها الى حيز الفعل الثوري ، بتصميم خطابات موجهة لكافة الشرائح الهامة، لايتعلق الامر بالقطاع الخاص، مثل العاملين بالاسواق وقطاع النقل وغيره، حسب ، وانما بالشرائح، ذات الثقل في مجرى الثورة والتأثير في الدولة والقطاع العام، كالعاملين في قطاع الخدمات او في تسيير دولاب عمل الدولة، عامة، الخ ، بمافي ذلك القوى ذات الشوكة وتشجيع عملية الانسلاخ من النظام ، بصورة عامة ، وانضمام شرائح وقطاعات جديدة للثورة . فضلا عن تصميم خطاب للعالم الخارجي ، واستكمال تلك الاجراءات الثورية ، بتنسيق عمل منظم على مستوى ال25 مدينة ، في اكثر من ست ولايات، اعلنت انضمامها للثورة ، ليستوعب كل اشكال العمل المعارضالنشاط الجماهيرى والارتقاء به لساعة الصفر.