أكملت ثورة الشباب المجيدة (90) يوما من عمرها وهي ثورة أو انتفاضة لاتشبه ثورة اكتوبر 1964 ولا انتفاضة أبريل 1985 ، يمكن مقارنتها فقط بحصار الخرطوم وانتصار الثورة المهدية على غردون باشا، والآن يماثل الوضع حال القصر الجمهوري بالخرطوم وضع غردون حين حاصره المهدي وأنصاره من كل الجهات . وكما استعان بعلماء السوء استعان البشير بحكامات السلطان .
في حالة غردون كان الاستعمار خارجيا وفي حالة البشير كان الاستعمار اخوانيا داخليا وقام بالنهب والقمع بعض من أبناء الوطن نفسه ضد أخوتهم في الوطن .
يصور الثوار الشباب هذا التشابه في الحصار حين يرددون
ترجف وانت في قصرك
ونغني ونحن في اسرك
بالفعل يعني الشباب وتزغرد الماجدات في الشوارع بينما يزبد ويرغي البشير كل يوم في مكان ويخلط أسماء الصحابة ويحاول إخفاء الخوف والاضطراب برقصة الهنود الحمر لإبداء اللامبالاة وعدم الاهتمام .
عندما انتظر الناس أن يعود البشير الي وعيه ويخرج بقرارات في مستوى الخطر الذي يحيط به، استمر في غيه وغروره وبدأ خطابه كفرا مكررا موال الحوار والانتخابات . ويفهم البشير كلمة حوار بلغة أهل كرة القدم! ويقصد به المراوغه والمحاورة وجر الخصم وترقيصه كما يفعل حسن عطيه وميسي الان.
في مقابلة مع مجلة المصور يوليو 1989م قال البشير للصحفي لاتنسى أنني من سلاح في الجيش يجيد مراوغة الخصم ، فكيف يعقل ان يتحدث عن الحوار وفي نفس اللحظة يعلن حالة الطوارئ بينما المنطق يقول برفع حالة الطوارئ لو كانت قائمة لتهيئة أجواء الحوار من حريات وقبول الاخر وإعادة جهاز الامن الى وصفه الذي حدده دستور 2005م وهو جمع المعلومات فقط . كما اتخذ قرارا أظهر عدم احترامه لاي حوار، فالحكومة التي حلها بمفرده دون الرجوع الي أحزاب الحوار وكان يسميها حكومة الوفاق الوطني لم يرجع لاحزابه الكثيره التي جاءت بمخرجات الحوار ومن بينها الحكومة المقالة!! يبدو ان حوار البشير يعمل بمبدأ “شاوروهن وخالفوهن”
الاهم من كل هذا ماهو المنطق السياسي في أن يسرب مدير جهاز الأمن القرارات وليس القطاع السياسي للحزب ، فهذا يؤكد طبيعة النظام الامنوقراطية! فجهاز الامن هو الذي يحكم فعليا ولا يساعد الحكومة فقط. كما هو الحال في الظروف العادية حيث تلجأ الحكومة للجهاز في أمور أمنية تساعدها في اتخاذ القرار .
تكرر الحديث عن انحسار المتظاهرين، والسؤال هو هل نقص عدد المعارضيين حتى وإن لم ينزل بعضهم الى الشارع وبالمناسبة مثل هذه التنازلات ترفع من معنويات المترددين وسوف تزيد الاعداد بالتأكيد .رغم أن التنازلات شكلية ولكنها أظهرت ضعف وتخوف النظام ،كما أن التغييرات سوف تحرم كثيرين من الامتيازات واستغلال النفوذ مما يقلل حماسهم للدفاع عن النظام . كما أظهرت التنازلات مواقف جديدة من دول المحيط الإقليمي كما تبين في تعليقات أجهزة الاعلام الرسمية وشبه الرسمية.
وسبقت هذه التنازلات مواقف تؤكد حقيقة الركوع لامريكا رغم القسم المغلظ بعدم الركوع إلا لله . فقد قام جهاز الامن باطلاق سراح جميع حملة جوازات السفر الامريكية خلافا للمعتقلين الاخرين .وهذا امتداد للركوع حين قام الاسلامويون السودانيون بطرد بن لادن واختلاس أمواله واستثماراته ،ثم تسليم كارلوس وإلغاء نشاط المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي وإغلاق مكاتبه بالخرطوم! وأخيرا حين طار وفد من جهاز الامن السوداني واجتمع بجزيرة قرب الشواطئ الامريكية مع منتسبي F.B.I و C.I.A وسلمهم قوائم بأسماء المعارضيين الاسلامويين من كل الدول والذين يترددون على السودان! وأكتمل الركوع لامريكا بتعيين مدير جهاز الامن الوطني السابق محمد عطا سفيرا للسودان وليس لسبب قدراته الدبلوماسية وخبرته في المجال ولكن لكي يكون في متناول الحكومة الامريكية ويمدهم بكل ما يحتاجونه من معلومات عن نشاط الاسلامويين في المنطقة .
ومن الواضح أن سنياريو البشير ليس الحوار ولا الانتخابات في 2020م بل تسليم السلطة للقوات المسلحة! وقد قال ذلك صراحة أنها الضامن الوحيد لاستقرار البلاد ولم يقدم نفسه كضامن كما أن إعلان حالة الطوارئ يعطي الجيش فرصة القيام بما تقوم به الاجهزة الامنية، كما أن تعيين كل الولاة من العسكريين له دلالة كبيرة على ثقته في العسكريين وخيبة أمله في المدنيين حتى لو كانوا أصحاب كفاءات .
محاولة انتقال تدريجي من الأسلمة الى العسكرة هي نصيحة محور عربي يحاول تقليص نفوذ الاخوان في المنطقة . فهل يقوم البشير بمفاصلة ثانية تبعد نهائيا أثار وبقايا الترابي عن السلطة؟ وهل من السهل أن يقبل الاسلامويون هذه المرة المخطط بسلام وهدوء ؟ هذا خطر اخر يضاف لخطر الثورة الشعبية مما يضيق مأزق البشير ويقلل قدرته على المناورة التي يدعي أنه يجيدها .