لم أفاجأ بقرار انسحاب الرئيس
الجزائري عبد العزيز بوتفليقه (14مارس 2019م) من الترشح لعهدة خامسة. مثلما لن
نفاجأ باستجابته لمطالب جماهير الشعب الجزائري الذي رآه يخرج بمئات الآلاف في
شوارع العاصمة والأقاليم.
عُرف الرئيس بوتفليقة بسجل
نضالي مشرف، ويُرجى
أن يتذكر أنه مناضل، ويعمل على أن يظل سجله نظيفًا. نطالع في صفحات التاريخ أن
بوتفليقه شارك بهمة في حرب تحرير الجزائر، وساهم بفعاليه في تشكيل وتأسيس جبهة
التحرير الجزائرية بعد الاستقلال، فضلاً عن أنه ظل مثقفًا عربيًا وأفريقيًا ملتزماً. وتحدثنا صفحات
التاريخ المعاصر عن إنجازاته وأفضاله في نشر ثقافة السلام في (عشرية الجزائرية) التي
أعقبت فوز الجماعات المتطرفة بالانتخابات في بداية التسعينيات. فقد أسهم الرئيس عبد العزيز في إعادة تشكيل صورة الجزائر
كما عُرفت بعد الاستقلال.
وبغض النظر عن إخفاقاته واستبعاده
الديمقراطية، فقد صار للجزائر في عهده نكهة وبصمة عبرت عن نفسها بتميزها في
السياسة الخارجية والداخلية لدولة محترمة ومستقرة، ولها قيادات ذات سمعة طيبة
تنتمي إلى شعب له فهم
خاص في كل مجالات الحياة.
وفي ظل التحدي الماثل، فإن
على أهلنا في الجزائر استيعاب الحقائق، وأن هذه موجة ديمقراطية لا يمكن صدها “بالبلبصة”
على طريقة الجبهة الإسلامية في السودان. وما يجيب القيام به، الاستجابة لجميع مطالب
شعبهم. والاستجابة لا تعني بالضرورة مطالب المزايدين، وخاصة تلك المزايدات اللزجة التي
تقودها حركة السلم والجناح المتطرف من الجبهة الإسلامية الجزائرية. ولكنها حتماً
تعني أن على جبهة التحرير الجزائرية أن تتأمل في مرآة الذات. والعودة إلى رشدها بتصويب مسارها عبر
الاحتكام للشعب الجزائري.
صحيح هناك مخاوف من خطف
الديمقراطية ثم تؤول الأمور إلى النسخة السودانية التي مزقت وحدة السودان، وقطّعت مجتمعه
إربًا إربًا، ثم صارت كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
يقول ابن الأثير في شرح
(المنبت) هو الذي يواصل السير
مواصلة مستمرة، ثم يكون من آثار مواصلته أنه يسير مثلاً خمسة أيام ما أراح نفسه
ولا أراح جمله. ففي هذه الخمسة قد يسير ويقطع، يقطع مسيرة خمسة عشر يومًا في خمسة
أيام، ثم يبرك به جمله ويهزل وينقطع به، فينقطع في برية يعني صحراء، فلا هو الذي
رفق ببعيره حتى يوصله ولو بعد عشرين يومًا، ولا هو الذي قطع الأرض كلها، بل برك به
بعيره في برية؛ وذلك لأنه كلف نفسه، وكلف بعيره فسار عليه حتى أهزله. دون أن ينجز شيئاً.
ولتجنب مآل إخوان السودان، الذين صاروا
ظاهرة صوتية وأقرب إلى ممارسات لصوصية. فإن هناك وسائل استثنائية يمكن ابتداعها
لحماية الديمقراطية الجزائرية الوليدة. ويعدّ التقليد الخطوة الأولى نحو الإبداع.
ولهذا أفضل طريقة لتجنب الخيارات الفاشلة الاقتباس من التجارب المماثلة في جنوب
أفريقيا وكينيا وتنزانيا والمثال التونسي في التحول نحو الديمقراطية. وستطور التجربة
نفسها بنفسها، وتصحح أخطاءها
عبر الممارسة وتراكمها. وستظل المحاذير والمخاوف من خطف التوجه الديمقراطي حاضرة .
ولكن منذ التسعينيات حتى اليوم جرت مياه كثيرة
تحت الجسر. ومع أن أسلوب قيادة حركة السلم أقرب إلى جماعة الشيخ حسن الترابي أي تمسكّن حتى تمكّن ثم تسلطن، إلا أن وضع وضع الترياق المضاد
ممكن.
ومن المخاطر الاستعانة بمجموعة إخوان السودان لتزوير
الانتخابات كما حدث في انتخابات الجزائر في بداية التسعينيات. ويظل الوعي بهذه المخاطر حائط صد يمنع
الجزائريين عن التخلي
عن حكمتهم المعهودة، ويحول دون اتباع العاطفة في الانتخاب، وإلا سيأتيهم من يقول لهم (إن هذه آخر
انتخابات في الجزائر). أو
يعيد عليهم لخطبة الشهيرة التي بقدرما أجهزت على الديمقراطية في الجزائر أطلقت الرصاص على أقدام تحالف
الأخوان المسلمين والقاعدة. وأيا تكن المخاطر والمآخذ فإن الرهان على وعي العقلاء الفضلاء
سيحدث توازنًا مطلوبًا وسيبرهن أن الجزائر استفادت من التجربة السوداء السابقة. ومن
لم يستفد ولم يتسم سلوكه السياسي بالعقل والرشد وباستيعاب معاني الديمقراطية
والتعددية والحياد، فإن مصيره سيكون مصير حزب البعث العراقي، الإجتثاث من تحت
الأرض.
إن ما سينفع مستقبل
الديمقراطية في الجزائر هو تعزيز ثقافة الاختلاف، ونفي أساليب الإقصاء. وما ينفع استنبات ماضي الجزائر، وتداخل أعراقها، وما اكتسبته من جوارها في جنوب
أوربا.
وتاريخ الجزائر ينضح بالتسامح والاندماج فضلاً عن قبول الآخر. وحتى
تاريخ جبهة التحرير
الجزائرية تشكل في الأساس على
استيعاب النظام التعددي في جبهة واحدة. واعتمدت الانتخابات وسيلة؛ ليعبر بها الفرد عن رضاه
عن القيادات وبرامجها أو
سخطه عليها، فاستصحاب واستنبات هذه الخلفية في حاضر الجزائر قد يشكل مناعة
ضد تكرار التجربة
الليبية.
وعوداً على بدء لا بد أن يدرك
الرئيس بوتفليقة أن الشعب
سيد نفسه، وكونه مثقفاً
كبيراً لابد يدرك أن
ثقافة الديمقراطية دفعت الشعبين الفرنسي والبريطاني إلى إبعاد شارل ديغول، وإسقاط تشرشل مع أنهما من أبطال تاريخيهما، وما ينطبق عليهما ينسحب عليه.