تقليد حميدٌ أن يخصص يوم ذكرى لمعانٍ طيبة كعيد الطفل، وعيد المرأة، وعيد العمال، ويوم مكافحة الملاريا، وعيد الأم وهلم جراً. بعض فقهاء التحريم سداح مداح يرون أن كل ما لم يكن عليه البدريون بدعة. أما الفهم المقاصدي لديننا فيعلم أن القاعدة العامة: ( يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[1]) ، وفي الأثر ” الحِكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ حيثُ وجدَها فَهوَ أحقُّ بِها”.
سلام على الأم في عيدها.
أم اسم فعل الأمر من أمَّ أي قصد، أي اقصدها، إنها رحم التكوين، وهي المرضع والحاضن. إن الأمومة هي أفضل وحدة إنتاج في الخليقة كلها. وهي التضحية العظمى حملاً ونفاساً وألماً دورياً مستمراً.
من عيوب الإسرائيليات مقولة إن الطمث عقوبة لحواء على إغواء آدم، بينما الوحي الإلهي ينسب الغواية لآدم مرة ولهما معاً مرة أخرى. الطمث جزء من مكابدة الأمومة، لذلك استحقت صاحبته الرخصة والمعاملة الخاصة الطيبة أثناءه.
لقد نشأت في ثقافة دارجة تستهين بالمرأة، ومنذ صغري رأيت أمي أنموذجاً إنسانياً رائعاً فتح ذهني لقيمة المرأة الإنسانية، فصرتُ أسبغُ ذلك التقدير على كل بنات جنسها. وبعد ذلك تناولت كافة المفردات في تراثنا المؤسسة لدونية المرأة وأبطلتها بموجب النصوص القرآنية والمقاصد الشرعية والاستنارة الإنسانية.
حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام مصطفى الرحمن ربيب نساء: آمنة وحليمة وغيرهما، وقال: “أنا ابنُ العواتكَ مِنْ سَلِيْم”[2]. ولا أجد نصاً في التراث الإنساني كله أكثر تعظيماً من مقولة نبي الرحمة: «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الأمَّهَات»[3]؛ ونص آخر هو من روائع أحاديثه عليه الصلاة والسلام إذ جاء رجل فقال: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟ قَالَ: (أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أُمُّكَ)، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: (ثُمَّ أَبُوكَ)”[4]. ومن فرط تعظيمه صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها وعلى أمها السلام، ومن فرط رعايتها له أطلق عليها عبارة أم أبيها.
أيها الجيل الناشيء، الوالدان لا يموتان فكل حالة حسية أو نفسية إنما هي بصمات من بصمات وراثية أو تربوية غرساها فينا.
أيها الجيل، لا تقل ماما بناء على المجهول، بل أمي انتساباً إليها. أساليب المسلسلات جعلتنا نقول عمو، وخالو، هكذا بناء على المجهول، بل عمي وخالي انتساباً إليهما. هذا أدعى للحنان:
وما الخال إلا من خلا لك وده وما العم إلا من بإحسانه عم
إن في تراثنا الثقافي المسنود بفقه منكفيء تأسيساً لدونية المرأة. هذه الدونية تناقض تدبر معاني الوحي الإلهي، وتناقض منظومة حقوق الإنسان التي اهتدت إليها الإنسانية المستنيرة. هذه الدونية الآن من أكبر أسباب الفتنة في الدين، فكثير من المسلمات خرجن عن دين توهمن أنه يعاملهن بالدونية. والفهم المنكفيء للدين صار اليوم من أسباب إلحاد الملحدين. في كتابي “المرأة وحقوقها في الإسلام” الصادر منذ 34 عاماً والذي وسعته مؤخراً في كتاب “الحقوق الإسلامية والإنسانية للمرأة”، مرافعة بالنقل والعقل لإزالة التمييز ضد المرأة.
نعم لكرامة المرأة، ونعم لقداسة الأم، طابت أمي حية وميتة في رحاب الله، وطالبت كل الأمهات وسلام عليهن في عيدهن وكل الأيام. ولهن العزاء الخالص فيمن فقدن من شهداء وشهيدات وجرحى أقدموا على قول كلمة الحق في سبيل الحرية والعدالة والعيش الكريم. دماؤهم ودماؤهن لن تذهب هدراً، بل تساهم في كتابة حياة أفضل وأمجد للوطن. فجر جديد نراه قريباً، أما الذين ينكرونه:
من ليس يفتح للضياء عيونه هيهات يوماً واحداً أن يبصرا
هوامش
[1] سورة الأعراف الآية رقم (157)
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير
[3] ذكره السيوطي في الجامع الصغير
[4] متفق عليه