طالعت خبراً مصحوباً بصورة فوتوغرافية يقول بأن الرئيس البشير زار الصحفي حسين خوجلي للإطمئنان على صحته بعد عملية جراحية كان الأخير قد أجراها في إسبانيا لإحدى عينيه، والزيارة في حقيقتها عبارة عن مواساة ومؤازرة قصد منها الزائر تخفيف الضغط على حسين بعد تعرُّضه لغضبة شعبية بسبب تهكُمه على الشعب والثوار والأحزاب السياسية، هكذا بالجملة، فالرئيس لا يزور صحفي أو فنان من خارج أبناء مِلّته حتى لو قُطِعت رجلي المريض من منطقة الفخذ، لا لمُجرّد إصابته بتراكوما تلزمها نظارة طبية.
وآخر زيارة قام بها الرئيس لشخصية من هذا النوع بسبب المرض كانت للممثل علي مهدي، وعلي مهدي من جوقة الرئيس وأحبابه المُقرّبين، وقد نُشرت للمثل علي مهدي صورة أثناء الزيارة وهو يُقبّل يد الرئيس بقوة وإندفاع كبيرين وهو ينحني من طوله حتى كاد أن يُلامس رأسُه الأرض، وفي نفس توقيت تلك الزيارة تصادف أن نُشرت صورة أخرى ظهرت فيها عميدة الدراما السودانية فائزة عمسيب وهي على فراش الموت، وقد رفعت كفّها الأيمن إلى أعلى بعلامة النصر وهي تُحيي الثوار، ثم ما لبثت أن صعدت روحها إلى بارئها بعد ذلك بأيام “نسأل الله لها الرحمة والمغفرة”، وفائزة عمسيب، برغم كونها قد خدمت دنيا الثقافة والفنون بما يُقارِب عُمر علي مهدي، تعرّضت في شيوختها لأقصى درجات الإهمال من الدولة، وقد عاشت لسنوات في معاناة مع الفقر والمرض، حتى أنها كانت تشكو حالها بالتصريح عن ذلك على الملأ، ففي تعليق لها على قيام ممثل معروف بعرض كليته للبيع في سوق الأعضاء البشرية بمصر، قالت “عمسيب” أن ما يمنعها عن بيع أعضاء جسدها هي الأخرى هو أن أعضائها أصبحت تالفة وقد فقدت الصلاحية بفعل مرض السكري (صحيفة فنون 16 أكتوبر 2012)، ثم أضافت أنها تعتزم العمل في بيع الشاي والزلابية على قارعة الطريق لتتقي سؤال الناس (رحمها الله).
خلال الأسابيع الماضية نجح أفراد الجماعة – بقصد او بدون قصد – أن يرفع كل منهم الضغط الشعبي الذي يصيب الواحد منهم عن الآخر، وقد بدأ ذلك بعد الهجوم الكاسح الذي تعرض له علي عثمان محمد طه بسبب حديثه عن كتائب الظل، وحين بلغت الهجمة أوجها، تركه الشعب في حاله وإنصرفت الأنظار منه إلى صلاح قوش بعد أن نُشِرت دعوته بإلهاء الشباب بفتح الملاهي، حتى أنقذه الشبل الذي ظهر على شاشة فضائية أجنبية وهو يُردد أبياتاً من الشعر القومي (بلادي حقول)، وإستمرت السخرية منه على الأسافير حتى كتبت له النجاة على يد الصحفي الطاهر التوم الذي خصص برنامجه شبه اليومي في تسفيه الحراك الشعبي، والطاهر لا يزال يفعل ذلك، فقد شاهدت – على اليوتيوب – حلقة إستضاف فيها زميله الصحفي محمد محمد خير ذكر فيها الأخير أنه عاد للتو من كندا، وقال أنه بعدما تابع أخبار ما يجري في الشارع على الاسافير، إعتقد – والحديث لمحمد خير – أنه سوف يخرج من صالة المطار ويجد الدبابات في الشوارع، ولكنه فوجيء بأنها ثورة في الفضاء وليست على الأرض وأنه منذ عودته يبحث عن هذه المظاهرات ولا يجدها.
هذه أفعال يُشكر عليها من يقومون بها، وهي تخدم الثورة ولا تُطفئها، بيد أن حسين خوجلي قدم ما يستحق عليه الشكر بوجه خاص، وهو ما تطوّع به من حديث في الحلقة الأخيرة من برنامجه التلفزيوني قصد منه توضيح مصدر ثروته، وهو تفسير من المفروض أن ينتهي بصاحبه في حراسة نيابة جرائم أموال الدولة لا أن ينتشي جهراً بحصوله على تلك الأموال وكأن مصدرها فعل مشروع، والحكاية بلسان خوجلي تتلخص في أنه كان يجلس خالي عمل بعد غلق صحيفته في عام 1994 حينما جاء إليه صديق ذكر له أنه حينما كان عائداً إلى الخرطوم بالطائرة تصادف أن جلس بجواره “خواجة” يعمل في شركة “شيفرون” الأمريكية إسمه جون باكوي، وطلب من حسين أن يعثر له على شخص يقوم بتوصيله لصاحب قرار في الحكومة لتسهيل المهمة التي جاء من أجلها (هكذا)، فتوجه خوجلي مع صاحبه إلى فندق هيلتون وأخذ “الخواجة” من يده وذهب به إلى معالي الوزير عثمان عبدالوهاب، وقد نتج عن ذلك تثبيت حقوق شركة “شيفرون” في الإمتياز على مربعات للتنقيب عن البترول ثم قامت قامت فيما بعد ببيع تلك الحقوق لجهات أخرى من الهند وماليزيا، فطالب خوجلي بنصيبه الذي حصل عليه بواسطة المحكمة بعد أن أقام دعوى ضد شركة “شيفرون” ومقداره نصف مليون دولار، بإعتباره وكيل محلي جرى تعيينه بواسطة “الخواجة”، ومثلها لصديقه الذي جاء إليه بهذه الغنيمة، ويقول حسين أن هذا المبلغ هو الذي إستطاع منه شراء قطعة الأرض التي بنى عليها منزله الحالي بمنطقة الطائف بالخرطوم. رابط المقطع المصور للحلقة https://www.youtube.com/watch?v=UeMfzWy1Hik
بخلاف نقطة الضعف في هذه الرواية، التي تتمثّل في أنه من غير المقبول عقلاً أن تقوم شركة مثل “شيفرون”، وهي أضخم شركة عالمية في مجال النفط بإرسال مندوب لها لبحث مثل هذه الأمور مع دولة أجنبية وتعتمد في ذلك على عابر سبيل يتم العثور عليه في رحلة سفرية، بخلاف ذلك، فإن القضاء لحسين بهذا المبلغ يبقى محل نظر، وهو حكم يكشف عن إختلال المعيار الذي إستشرى في أجهزة الدولة حتى بلغ أحكام القضاء في شأن تحديد ما هو صحيح مما هو باطل.
هناك قاعدة راسخة ومبدئية ضمن ما يُعرف بقواعد العدالة الطبيعية ويُعمل بها في كل أركان الدنيا وهي تقول: “أن من يطلب العدالة يجب أن يأتي إليها بيدين نظيفتين” وهي ترجمة – بتصرف – لأصل القاعدة في اللغة الإنجليزية التي تقول: “He who comes to equity must come with clean hands” والأيدي النظيفة هنا – بحسب المبدأ – لا تعني أن يكون طالب العدالة قد إرتكب جريمة بالمخالفة للقانون حتى تكون يداه ملوثتان، مؤدّى هذه القاعدة، أن الذي يبتغي إقتضاء حقه بالعدالة يجب أن يكون فعله المُنشئ للحق سليم ومشروع، ولا يُشترط أن يكون تلوّث الأيدي قد نجم عن جريمة حتى تُطبّق هذه القاعدة، ويكفي لذلك أن يكون منشأ الحق فعل وقع بالمُخالفة للإجراءات الإدارية السليمة، كما حدث بإستغلال حسين خوجلي لعلاقته الشخصية (بموجب إنتمائه للجماعة) مع موظف عام وتسخير ذلك في لعب دور الوسيط لإتمام الصفقة التي حصل في مقابلها على تلك المبالغ، والدليل على ذلك أن صديق خوجلي لجأ إليه بهذه الصفة، لا كفاعل خير يبتغي من وراء العملية خدمة الوطن، كما يُدلل على ذلك أن شركة “شيفرون” نفسها قامت بدور السمسار بحصولها على عمولة (بحسب حديث خوجلي لعب فيها الكبار أيضاً) عن طريق تمرير حقوق التنقيب لشركات أخرى.
في زمن ما قبل الإنقاذ، كان مثل هذا السلوك يقع في مضارِب العيب الذي يستر صاحبه نفسه بالتكتُّم عليه، وقد أصبح اليوم من يقوم به يحكي به برأس مرفوع على شاشة التلفزيون، وكنت قد ذكرت سابقاً حديثاً في هذا المعنى حول ما يُجسّده الواقع الذي نشأ بفعل نظام الإنقاذ الذي أدّى بمرور الوقت الى تكوين عقيدة لدى الناس بأن الفعل الفاسد الذي يقود للثراء لا ينال من قدر المرء في الدنيا ولا من أعماله ليوم البعث العظيم، فأضحى الفساد في نطاق العادي والمألوف لأفراد المجتمع، فقبل الإنقاذ كان للفساد والجريمة أهلها وللفضيلة والصلاح رجاله، ولم يكن هناك من يجمع بين الجريمة والفضيلة، وكان الفساد عاراً يجلب الإحتقار لصاحبه، فذابت المسافة في عهد الإنقاذ بين الفضيلة والرزيلة وتلاشت الفوارق بينهما، فأصبح الفاسد يتقدم الناس في الصلاة ويحج البيت الحرام كل عام، ويصوم كل إثنين وخميس، وتتسع غرّة صلاته بقدر إتساع ذمته، وصار لكل فاسد مريدين وأحباب يسبّحون بحمده وينتظرون عطفه وعطاياه، فتراخى الشعور بالعيب عند الناس.
لقد عشنا في هذه الدنيا حتى جاء علينا اليوم الذي تبادل فيه الأفراد والدولة المراكز، فأصبح الشرطي يتلثّم ويضرب المواطن وينتهك الأعراض، وأصبح دور المواطن منع الشرطي من إرتكاب مثل هذه الجرائم، وأصبح المسئول الحكومي يسطو على المال العام، فيما يفعل الأفراد غاية جهدهم لمنع هذه الجرائم وفضح أصحاب
جمعة طيبة ومباركة
صباح الخير والجمال