إن كانت العثرات سمة الاقتصاد السوداني قبل الاحتجاجات فقد أضحى أشد عسرا في ظل استمرارها ثلاثة أشهر، وربما اطفأت الحكومة شرارة المظاهرات “الخبز” لكن طوابير الوقود والنقود ما زالت طويلة.
والوجه الكالح لأزمات السودان الاقتصادية يتبدى في الخرطوم، لكنه في الولايات أكثر وضوحا وقسوة، وفق مراقبين.
ومع دخول الاحتجاجات شهرها الرابع تتفاقم أزمة شح الوقود للحد الذي أدى إلى توقف عمليات التعدين الأهلي -أهم مورد للعملات الصعبة- بسبب انعدام الغازولين، ليعود مئات العاملين في تنقيب الذهب إلى قراهم ومدنهم.
في “الخرطوم بحري” وتحديدا المحطة الرئيسية للحافلات السفرية المتوجهة إلى ولاية نهر النيل يصل على مدار اليوم العشرات من عمال التعدين، اثنان منهم قالا للجزيرة نت “انعدام الغازولين شل كل شيء، غادرنا لأن البقاء هناك بدون إنتاج صعب ومكلف”.
مناجم الذهب يقول مبارك عباس النائب البرلماني رئيس اتحاد المعدّنين التقليديين للجزيرة نت إن نحو 150 ألف مُعدّن في أكبر مناجم التعدين التقليدي في محلية أبو حمد مهددون بفقدان وظائفهم جراء أزمة الوقود.
ويشير إلى وجود ثلاثة أسعار للغازولين في منطقة كانت تستهلك قبل الأزمة نحو 40 ألف غالون يوميا: سعر مدعوم عند 780 جنيها للبرميل، وسعر تجاري عند 4.9 آلاف جنيه، وسعر السوق السوداء عند 10 آلاف جنيه.
وتضم المنطقة -بحسب عباس- آليات تشمل 150 غربالا للذهب الرسوبي تعمل باللوادر، فضلا عن خمسة إلى ستة آلاف آلية تحتاج للغازولين وتشمل الحفارات والشاحنات والتناكر.
ويشكو مبارك عباس من أن أوامر الطوارئ التي تحظر اقتناء ونقل الوقود فاقمت مشكلة تعدد أسعاره، واقترح على الحكومة السماح للمعدّنين بالتعاقد لاستيراد الوقود.
وعاب على الأجهزة الأمنية القيام بتوزيع الوقود باعتبار أن مهامها رقابية فقط، في حين نقل وتوزيع المحروقات يجب أن يكون من اختصاص الحكومات المحلية، مشيرا إلى لجوء المُعدّنين إلى المدن لخلو محطات الخدمة بمناطق التعدين.
حال الولايات وعلى الرغم من أن صفوف السيارات في محطات الخدمة بالعاصمة الخرطوم أصبحت نادرة لكنها في أغلب ولايات البلاد أضحت صورة معتادة.
يقول الصحفي محمد سعيد العائد من مسقط رأسه في حلفا الجديدة بولاية كسلا للجزيرة نت إن أزمة وقود طاحنة تعيشها الولاية الشرقية، خاصة البنزين.
ويشير إلى أن المئات من سيارات طراز “تويوتا” المستخدمة في نقل المواطنين تصطف يوميا للحصول على حصة أسبوعية، لكن سائقيها بدلا من نقل الركاب يبيعون حصتهم في السوق السوداء ويمضون إلى عمل آخر في انتظار حصة أخرى.
ويضيف سعيد أن الخبز ما زال مشكلة في ولاية كسلا ما بين شحه وصغر وزنه، موضحا أن الأمن يقوم بمهام الحكومة المحلية في توزيع وحراسة حصص الولاية من الوقود والدقيق.
وفي ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة يحصل سائقو السيارات على غالون البنزين (4.5 لترات) بواقع 33 جنيها (أقل من دولار واحد) بعد الوقوف طويلا في الصفوف، لكن الكمية ذاتها تباع بيسر في السوق السوداء بواقع 150-200 جنيه (نحو 3.1-4.2 دولارات).
معاناة الدراميين وطالت الأزمة الاقتصادية فناني الدراما، بعد أن أفشلت المظاهرات موسم تنظيم الحفلات في رأس السنة الميلادية، إما لتضامن الفنانين مع الضحايا أو لمنع السلطات خوفا من التجمهر.
ويقول الممثل عوض شكسبير للجزيرة نت إن استمرار الاحتجاجات أثر وسيؤثر عليهم، خاصة أن رمضان يمثل موسما للدراميين “لكن من أجل الشعب الذي تظاهر فلتتوقف مصالحنا”.
ويضيف “الثورة أوقفت عملنا، لكن إكراما للشعب سنبحث عن وسائل أخرى لنوفر لقمة العيش لأبنائنا ونعبر عن فننا حتى ينجلي الموقف”.
وفي إشارة إلى حالة الاستقطاب التي انتجتها الاحتجاجات، يقول شكسبير إن هناك دعوات لمقاطعة قناتي “سودانية 24″، و”أم درمان” وما تبقى من قنوات غير مشاهدة، وقال “عانى الدراميون أصلا من شح المواعين (أطر العمل) قبل الثورة إلا في حالة من يستطيع الإنتاج ويوفر رعاية إعلانية”.
حلول مقترحة عندما اندلعت المظاهرات في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي بسبب مضاعفة أسعار الخبز في عطبرة وبورتسودان كان وقت السودانيين في العاصمة الخرطوم شبه مقسم بين طوابير النقود والخبز والمزاحمة من أجل الحصول على مقعد في مركبة عامة.
ولا تعاني الخرطوم الآن من ندرة خبز ولا مواصلات، لكن أزمة النقود تبدو أكثر صعوبة رغم طباعة فئتي المئة والمئتي جنيه، في حين يتوقع طرح فئة الخمسمئة للتداول في أبريل/نيسان المقبل.
وكانت المصارف تمنح عملاءها سقوفا متدنية للسحب من مدخراتهم، وهو ما ليس متوفرا الآن في أغلب البنوك، وأصبح لماما مشاهدة الطوابير أمام ماكينات الصراف الآلي، لكن ليس لتوافر أوراق النقد بل لأنها خاوية.
ويقول المستشار في سوق الأوراق المالية طه حسين للجزيرة نت إن البنك المركزي ومن ضمن حلوله لمشكلة خروج الكتلة النقدية من النظام المصرفي أخرج الصرافات الآلية من حساباته، في محاولة لمحاصرة تجار “الكاش”.
ويقترح اعتماد الرمز الائتماني للعميل ضمن معالجات الحد من هذه الممارسات، فضلا عن الاستفادة من أمر الطوارئ الأخير الصادر عن الرئيس عمر البشير بحظر تخزين الجنيه والمضاربة به.
ومنذ العام الماضي تحول الجنيه السوداني إلى سلعة تباع وتشترى بسعرين، سعر أكبر بالشيك وآخر أقل نقدا، أسوة ببيع وشراء الدولار المستشري منذ سنوات خارج المصارف.
ورقة الطوارئ ويرى طه حسين أنه إذا طبق قانون الطوارئ بلا استثناء واستهدف أماكن تخزين العملة الرئيسة في أسواق الذهب والسيارات فإن من الممكن أن يعالج شح النقود، بنقل مخزونات التجار من العملة إلى حساباتهم البنكية.
ولا يرى حلا في طباعة المزيد من العملة، بل الحل برأيه يكمن وقف الممارسات المرتبطة بالندرة وتباين الأسعار، كما أن أي نقود تخرج من البنوك لن تعود إليها في ظل ربح مبدئي للكاش في حدود 15 إلى 20% مقابل الشيك.
وبحسب المستشار في سوق الأوراق المالية، فإن الفرق بين الشيك والكاش مطبق حتى في بيع الذهب بواقع خمسمئة جنيه في كل غرام ذهب.
وينبه إلى خطورة تركز الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي بقوله إن المطبوع من النقود 113.9 مليار جنيه طبقا لتقرير البنك المركزي في 31 ديسمبر/كانون الأول 2018، منها 112.8 مليار جنيه في السوق، ونحو 1.1 مليار جنيه في البنوك التجارية.
ولحل هذه المشكلة يدعو حسين الحكومة لاستغلال خدمات الاتصالات مع وجود 29 مليون هاتف نقال، 13 مليون منها مرتبطة بالإنترنت ويمكن ربطها بنظام الـ”باركود” (شفرة التعرف).
فاتورة الاحتجاجات وتدخل الاحتجاجات ذاتها كعامل ضغط على الاقتصاد المنهك، ذلك أن الآلاف من القوات المنوط بها مكافحة الشغب في حالة استعداد قصوى منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وبحساب استخدام قنابل الغاز المدمع فقط ستواجه الخزانة العامة ضغطا هائلا، خاصة بعد استيراد كميات كبيرة منه لفض المظاهرات التي لا تكاد تتوقف.
وطبقا لمعلومات متاحة على الشبكة العنكبوتية، فإن ثمن عبوة الغاز المدمع والقنبلة الصوتية يتفاوت بين 18 و53 دولارا.
واضطرت قوات الشرطة في أسبوع واحد خلال فبراير/شباط الماضي لاستخدام 22 ألف عبوة غاز مدمع في ولاية الخرطوم وحدها، كما أن إمداده بولاية الجزيرة كان مهددا لأكثر من مرة.
وعلى مدى شهرين عرف المحتجون أنواعا عدة من قنابل الغاز ومن دول منشأ عديدة، وباتت أحياء في الخرطوم مثل شمبات وبري والعباسية تتباهى بغنائمها من فوارغ المقذوفات.المصدر : الجزيرة