وأنا أتأمَّل، وأتعجَّب، في حالة أحد الوزراء وهو يبكي (ويتمخط) عندما أعلن الرئيس البشير حل حكومة الوفاق الوطني، التي كان هو وزيراً فيها، فإذا بصديقنا (الكوز الكردفــاني) أحمد الشين الوالي يُرسل إلينا هذه القصة العجيبة في قروب أهلي مشترك، وأسماها (حكاية في حب السلطة) .. قال:
في عام ١٩٩٧م أقمنا في الفاشر مؤتمراً كبيراً للصلح بين الكبابيش في شمال كردفان، والميدوب في شمال دار فور.. وحشدنا للمؤتمر معظم نُـظَّار الإدارة الأهلية من أهل كردفان ودار فور، ومن بعض رجالات الإدارة الأهلية، والطرق الصوفية من الإقليم الأوسط، والخرطوم..
واجهتنا مشكلة في إختيار رئيسٍ للمؤتمر..وكنا قد قدَّرنا أنْ ناظراً معيناً لإحدي القبائل الكبيرة سنختاره رئيساً، وكان رجلاً متنفذاً، يأنس في نفسه الكفاءة والدراية، ولا يرى أحداً غيره خليقاً بهذه المهمة، ولكننا أدركنا لاحقاً أنه غير مناسب لأنه ذو قرابةٍ بإحدى المجموعتين المتنازعين، فعدلنا قرارنا، وأخترنا ناظراً آخراً بديلاً عنه، وكان البديلُ رجلاً طيباً، متواضعاً، لا يتوق لتلك المكانة ذات الشهرة العالية..وعند إعلاننا للقرار، وإذاعة إسم الناظر المُختار لرئاسة المؤتمر حدث العجب العُجاب!
أُصيب الناظر المتطلع، الذي خاب ظنه فينا طبعاً، بحالةٍ من الإستفراغ (الشديد المفاجئ) مصحوباً بإسهالٍ رهيب!! وأما الناظر الطيب، المتواضع، الذي أخترناه، والذي ما كان يرجو علواً في المؤتمر، ولا شهرةً، فقد أُصيب هو الآخر بحالةٍ أشبه بالصَّرَع، فأنهار مُمَـدداً في سريره، (يرفِس) في حركةٍ هستيرية، قال عنها أحد أهل دار فور الساخرين إنها داءٌ يُعرف عندهم ب(أُم طِوَيرة)!!!
تلك الحالة المزرية، المزدوجة للناظريْن أخَّرت إنعقاد جلسة المؤتمر الإفتتاحية لمدة ساعةٍ كاملة..ولما أفاق رئيسُ المؤتمر الطيب، المتواضع، لم يقوَ علي المباشرة حتي ساعدناه، (وتكَّلناه تكِّيلاً) في الوصول إلى كرسي الرئاسة!! وأما صاحبنا الناظر السلطوي، المتطلع، فقد ظلَّ، وإلي ما بعد إنتهاء الجلسة الإفتتاحية، في حركةٍ دؤوبة بين سريره والحمام إستفراغاً وإسهالاً !! إنتهت قصة أخونا أحمد الشين الوالي !!!
فقلتُ يا سبحان الله.. (فأخونا الوزير) المسكين الذي بكي، كان إذن قد أصيب بخيبة أمل، وبالإحباط (الشديد المفاجئ) حين حلَّ الرئيس تلك الحكومة (الزائلة)، وكان سيادته -أي الوزير- يتخوَّف أنه ربما لن يكون له من حظٍ فيما سيأتي من تشكيلاتٍ وزارية، فأجهش في نوبة بكاءٍ حقيقية، وما ندري ما إذا كان قد أعقبها إسهالٌ، وإستفراغٌ، مثلما حدث للناظر السُّلطوي المتطلع !!
ولو صبر الوزير -حتي يخرُج إليهم الرئيس بتشكيلة وزارية مجدداً- لكان خيراً له، فمن الوارد أن تشمله حكومة إيلا -وقد شملتهُ فعلاً- لأن المسألة ما هي إلا تدويرٌ لنفس أكياس البلاستيك!!
طبعاً بالنسبة لي (وبحسب معرفتي) فإنَّ مثل هذه الأعراض التي تطرأ بعد أحداثٍ سريعةٍ مفاجئة، أو عند التوتر الصاعِق، أو حتي عند الإبتهاج الغامر، هي شئٌ طبيعي، ومتوقع نتيجةً لحدوث إفرازٍ (شديدٍ ومفاجئ كمان) لهرمون (ملعون كدة) إسمو (الأدرينالين) يرافقه هرمونٌ آخر إسمه (الكورتيسول)!!
• وهذا (الأدرينالين) يسميه الخواجات (هـرمون الفَـر والكَـر)، وهو نوعٌ من دفاعات الجسم الطبيعية، لأنه يهيئ الجسم بالطاقة والإستعداد اللازميْن للتصرف؛ إما بالهرب، والنجاة بسرعة، أو بالإستعداد للمصادمة والمدافعة عند حدوث ما يلزم.. وعندما يُفرز هذا الهرمون يرتخي الجهاز التنفسي، فتلاحظ تسارع وتيرة التنفس، وتزداد ضربات القلب، وتتسع حدقات العيون فيتهيأ لك أن الشخص (منطط عيونو أو مُنخلِع)، أو تصبح عيناه (حمراوين يتطاير منهما الشرر فيقال عينو حمرا وشرارة) إذا كان يريد أن يصادم..وهو -أي الهرمون- يساعد كذلك علي إدخال كمية أكبر من الدم إلي العضلات الكبيرة فتلاحظ أن الرِّجليْن مثلاً تحلَّتا فجأةً، بقوة خارقة، وقدرة علي الركض السريع فتسابقان الريح !!
وبعض الناس يصابون بجفاف، وألم في الحلق يعني (الريق ينشف، وتغبِّش الشفتان فيقال إنو ما قادر يبلع ريقو)، ويحدث لهم تعرُّق شديد حتي أنهم يتصببون عرقاً، وبعضٌ آخر يُصابون بهذيان (وطربقة)..هذه الأعراض كووولها، وغيرها يحدثُها الإفراز (السريع المفاجئ) لهرموني الأدرينالين والكورتيسول، وهرمونات صغيرة أخري!!
• الغريب فعلاً أن أعراضاً مشابهة تحدث للشخص الذي يكون علي وشك أن (يفِك كضْبَـة)..راقبوا مثلاً كيف أن (كبار المسؤولين السودانيين) وهم يلقون خطابات جماهيرية، ولاحظوا كيف تحدث لهم طربقة، ولقلقة شديدة، مع حركة متسارعة للحلقوم (طالع نازل) عندما يكونون علي وشك الكذب !! إنه مفعول الأدرينالين..
• إخواننا السعوديون -الله يهداهم- أحياناً يصدرون قرارات إلغاء الوظيفة، وإنهاء الخدمات، وعقود العمل بصورة مفاجئة، ودون سابق إنذار، فتحدث صدمات ودربكات شديدة للمتعاقدين..
واحد من الجماعة يعمل مدرساً، وجاءه قرارٌ مفاجئ بإنهاء خدماته فوراً..فرفع رأسه، بعد قراءة القرار مخاطباً زملاءه الذين إصطفوا إلي جواره لمؤازرته، وتعزيته، قال لهم: مافي مشكلة..والله مافي مشكلة تبب.. السعوديين ديل بس لو خلونا للسنة الجاية، بس عشان (نطهِّر المرة) (ونحجج العيال) ما كان في مشكلة خااالص..
هذه طربقة الأدرينالين !!
• أتذكَّر تماماً أن أحد أصدقائنا كان يسكن معنا عندما كنا عُزاباً في مدينة الثورة بأم درمان، وكان يهيم حباً ووجداً بإحدي زميلاته، وربما أنه كان يرغب في خِطبتها قريباً..ثم حدث أنه سافر إلي إحدي المدن، وعندما رجع وجَدَنا علي صينية الغداء، فباشر معنا في الطعام..غير أن أحد إخواننا (اللقيشين الخفيفين)، والذي ربما لم يكن يعلم بقصة تعشق صديقنا لزميلته، ففاجأه قائلاً: ياخي زميلتكم فلانة دي بالمناسبة أمبارح كانت خطوبتها !!
تصدقوا الزول دا (نطَّ) من صينية الغداء كالذي لسعته عقرب، وجري (فللي) علي الحمام، وعووووووع !!
فيما بعد، وعندما أصبح الأمرُ واحدةً من قصص الغرام الحزينة الماضية، سألتُه عماذا كان إحساسُه بالضبط عندئذ، فقال لي: والله العظيم بطني في اللحظة ديك (ماصَتني چوووووووووت)، وطعم الأكِل بقي لي في خشمي (طين طين)!!
إنه الأدرينالييييين !!
• وصية للسادة الوزراء، والدستوريين، والمعتمدين ومن في حكمهم:
هذا الهرمون ملعون جداً، ولا يعذر، ولا يقدِّر الظروف..فإذا شعرتَ بمداهمته لك في أيِّ مناسبة غير سعيدة، فلا تفتح خشمك..أغلق خشمك فوراً وبإحكام، لا تعلِّق بأيِّ كلمة..ثم أقبِض علي كل مخرجٍ آخر في جسمك بقوة، يعني كل ما يأتيك منه الريح سِدَّه وأستريح، ثم قُم وتوضأ..وإذا وجدتَ طريقةً ومكاناً فأنبطح..ثم إذا وجدتَ طريقة تغطَّي ببطانية، متمدداً، ومواصلاً إمتناعك عن الكلام..بهذه الطريقة يتوزع مفعول الأدرينالين بالتساوي علي كل أجزاء الجسم، بدلاً من التمركز علي اللسان، والفتحات التي يدخل، ويخرج منها الهواء والطعام !!
•••
bashiridris@hotmail.com