هناك من الإعلاميين الموالين وغيرهم مِمَنْ اختاروا أن يقفوا في الضفة الأخرى المقابلة للمنادين بالحرية والسلام والعدالة مَنْ يحاول تصوير القضية بأن المطالبة بالتغيير تعود إلى غلاء الخبز وشح الوقود و(عدم صرف النقود)..! أو إن المسألة أخطاء ارتكبها بعض مسؤولي الحكومة..و(حتتصلّح)! وهذه مقولة قاصرة (خائبة) تريد أن تمنح المؤتمر الوطني (لحافات وبطانيات) وأغطية من البراءة ومن الشرعية ليستمر في طريقه الذي اختطه لنفسه ولم يعبأ فيه بالآخرين..! ولا نعرف أن هناك إقصاء قد تمّ من أي حزب حاكم في الدنيا كما فعل المؤتمر الوطني…(فإن يكُ بحر الحنظليين واحداً.. فما تستوي حيتانه والضفادعُ)..!
لقد كان إقصاء المؤتمر الوطني (ماركة مسجلة) خاصة به، لا ينافسه فيها الحزب الوطني الألماني..وليرجع الناس إلى ثلاثينيات القرن الماضي ليعرفوا ما هو الحزب الوطني الألماني.. كما إنه لا يشبه الحزب الوطني الايطالي في ذات الفترة.. فقد كان إقصاء المؤتمر الوطني من (أبو كديس) وكان الإقصاء عنده من الأولويات ومن الأمور المقررة مسبقاً ومنذ البداية الباكرة.. ولم يأت مع تطورات الأحداث كما حدث في نازية ألمانيا أو فاشية ايطاليا..! فقد كانت خطة المؤتمر الوطني في الإقصاء (أكثر مبدئية) و (أعمق إستراتيجية واستدامة)..! وقد مسكت هذه الإستراتيجية الأيدي (التي توجع الناس) وشرعت بقوة وعنف في الاستبعاد والتهميش و(التطفيش) من العمل ومن الحركة والتنظيم والكلام والمشاركة واقتربت من الهواء الذي تتنفّسه المخلوقات..! ولذلك كان الإقصاء أبعد أثراً لأنه بدأ (بقلع) الناس من وظائفهم ولم يكن ذلك مُقتصراً على الوظائف العليا أو الوسيطة فحسب، بل كانت تبدأ وتنتهي من القواعد وتشمل حتى الدرجات الدنيا، كما لم تقتصر على مهنة أو قطاع أو دائرة بل شملت كل القطاعات الخدمية والنظامية والتعليمية والاقتصادية والحرفية..!
وحكمة الله أن الإقصاء من هذا النوع تمّ بتخطيط وتنفيذ لا يعرف الرحمة ولا يخشي لومة لائم ولا ينظر إلى لوائح أو قوانين.. وقد شمل الاستبعاد من لا يعملون في الدولة أو مؤسساتها ومصالحها وهيئاتها، وامتد إلى ميدان القطاع الخاص والتجارة و(سوق الله أكبر) لأنه كان يهدف إلى الإحلال والاستبدال.. ثم اتجه الاستبعاد إلى أئمة الجوامع و(المؤذنين) و(سوق الدرداقات) وبلغ الهيئات الدينية والإدارة الأهلية و(المشايخ والعمد والشراتي) والطرق الصوفية والأندية الرياضية والاتحادات الاقتصادية والمهنية والفنية وجماعة التمثيل والمسرح والفنون وهيئات الثقافة والمعاهد العلمية والجامعات والمدارس و(رياض الأطفال) والمجامع التربوية ومنظمات المجتمع المدني.. وابتدع في ذلك ما لا يمكن تصوّره؛ مثل استبعاد أهل الفكر والعلماء والخبراء بتنصيب مجموعة تحمل اسم هيئة علماء السودان لتحتكر العلم والفتوى.. وإذا نظرت إلى من يجلس تحت هذا المسمى لعجبت من جرأة بعض من يظن أنه من علماء السودان! ويملأك الشك أن تنسبه إلى رابطة يظن أنها تجمعه برصفائه؛ مثل ابن رشد والفارابي والغزالي وابن خلدون والبيهقي وابن حبيب الفزاري (صاحب الاسطرلاب) والبيروني والاصطخري وابن الهيثم وابن حوقل وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأبقراط وجان جاك روسو.. (زملاء المهنة).. لأن المسألة في العلم ومَنْ يحمل تبعته لا تتوقف عند محبة (لحم الضأن) والباسطة والبطيخ..!
لقد كان إقصاء المؤتمر الوطني لكل “ما هو ليس بمؤتمر وطني” ابعد من هذا.. فقد أكمل مهمته مبكراً وطرد الناس من كل الميادين.. وقد تمّ ذلك حرفياً وعملياً، بما في ذلك أن يتفضّل الناس إلى خارج الوطن (مشكورين).. وهي مهمة لا نزال نسمع صداها حتى اليوم من أصحاب المؤتمر الوطني على أعلي مستوياتهم السلطوية.. وليس آخر ذلك الدعوة التي أطلقها رئيس الوزراء الجديد لتسهيل إجراءات استخراج مستندات السفر.. ليتسنى للشباب أن يُظهروا (عرض أكتافهم) ويغوروا إلى ما شاءوا من مجاهل الدنيا…!
murtadamore@yahoo.com