تفادياً لأمثولة (البيضة والدجاجة) المعروفة، ومن باب الحرص على التوثيق الذي أزعم أـنني أحد المهمومين به في حياتنا السياسية، لابد من التأكيد على أن الثورة السودانية الثالثة، أو ما اسميها (ثورة الحرية والكرامة) قد استبقت كل الأُطر التنظيمية الناشطة والخاملة في الفضاء السوداني، وذلك حين اندلاعها في شهر ديسمبر من العام الماضي 2018 وقد تجاوزت حتى الآن الثلاثة أشهر. علماً بأن التوقيت المشار إليه لا ينفي أنها وليدة تراكمات ظلت تتمدد وتنكمش طيلة الأعوام الثلاثين التي جثمت فيها العُصبة ذات البأس على صدور العباد، الأمر الذي حدا بوصفها في أدبياتنا السياسية بالأعوام العجاف حيناً والحسوم أحياناً أخر. بل إن هذه الأعوام تعد الأشد وطأة على البلاد منذ استقلالها في العام 1956 وإن شئت – عزيزي القارئ – أن تمد بصرك إلى أبعد من ذلك في مقارنة مع مختلف الحقب الاستعمارية، فحتماً سيرتد إليك بصرك خاسئاً وهو حسير!
(2)
حسناً فعل تجمع المهنيين حين اغتنم تلك الفرصة المشروعة، والتي طالما تاق لها منذ تكوينه الخفي في العام 2016 أي كان تأسيساً انسيابياً لم يلفت ظهوره انتباه الذين لهجت ألسنتهم بسؤال البديل، بل لم يلفت انتباه السلطة الحاكمة نفسها. كانت كالذي ينتظر أن تمطر صيفاً فأمطرت شتاءً. وفي واقع الأمر فإن سؤال البديل نفسه كان بمثابة فخ نصبته العصبة الحاكمة من باب التعجيز والتيئيس والتخذيل. وزادت عليه بإقامة دولة ثيوقراطية فاجرة، ادَّعت بها أنها مبعوثة العناية الإلهية، وذلك حتى تكون في مأمن من يد الباحثين عن بديل حقيقي. بيد أنه من جهة ثانية كان السؤال موضوعياً، في ظل فشل تراكمت مسبباته من قِبل القوى الوطنية والديمقراطية، اتخذته العصبة مبرراً تستدعيه كلما أظلم ليلها وأغطش ضحاها، بالرغم من أن فشلها تطاولت سنواته واستنطق الصخر العصيا. ولهذا كان ظهور تجمع المهنيين بمثابة اختراق أو علامة فارقة Breakthrough وجد فيه الباحثون عن بديل إجابة واقعية بسطَّت السؤال: مِن مَن يحكُم السودان إلى كيف يُحكم السودان؟
(3)
لقد وجد تجمع المهنيين تجاوباً كبيراً ربما لم يطرأ حتى على أذهان الذين ابتدعوا الفكرة وأرهقهم التخطيط لها ليل نهار. وذلك في تقديري يرجع لعدة أسباب، نذكر منها على سبيل المثال:
أولاً: لكل جديد دهشة كما تقول الأعراب، لا سيَّما وأن جديد تجمع المهنيين جاء مصطحباً معه ما يسمى (نظرية الهرم المعكوس) أي أنه تحالف سياسي نقابي عريض يمثَّل رأس الهرم، وقيادة لم يُعرف منها سوى القليل أصبحت بمثابة قاعدة الهرم. علاوة على دهشة جديدة أيضاً تمثلت في الظهور الكلاسيكي للتجمع، متزامناً مع تأزم الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية في البلاد ووصولها إلى عنق الزجاجة، لكأنها كانت على موعد مسبق.
ثانياً: ثمة دهشة ثالثة عبَّرت عنها جموع الذين ظلوا ينظرون للواقع السياسي السوداني من خلال فشل القوى السياسة قاطبة، والذي تراكمت مسبباته وأدى إلى عجزها عن مقارعة النظام الحاكم بآليات فعَّالة لاقتلاعه من السلطة. ولم يشفع لها أن البعض كان يدرك الأسباب ويعيها في حين غابت عن آخرين. وكان هذا وذاك مدعاة لرجحان كفة التجمع والتفاعل التلقائي مع مكوناته.
ثالثاً: بنفس الوتيرة تناغم ظهور تجمع المهنيين مع استنهاض همم القوى الشبابية من الجنسين، والذين أصبحوا وقوداً للثورة. وتلك تُعد أول ظاهرة في الحياة السياسية السودانية بهذا الحجم. الأمر الذي فرض أجندة جديدة في قائمة الطموحات والتطلعات بل حتى الآمال والأحلام التي تبتغيها هذه الشريحة الاجتماعية الهامة، والتي تُقدر نظرياً بما نسبته 60% من تعداد أهل السودان، 80% منهم خاضوا غمار التظاهرات. وكما هو معروف فإن القوى الشبابية هذه هي التي سوف تحدد مسارات الوطن المستقبلية، بما يعني أن الثورة بهذا الطابع الجديد لن تقف عند سقف سقوط النظام.
رابعاً: كان الغموض غير المخطط له في أجندة تجمع المهنيين سيد الموقف في بداية التظاهرات، وتداعى إلى أن أصبح غموضاً جاذباً للناظرين، في حين سرى قلق في نفوس أهل النظام، الذين باتوا يتساءلون عن النبأ العظيم وشغلوا أنفسهم به حد الشفقة. ولما عِيل صبرهم انطلقت أبواقهم تنثر الأكاذيب التي تحاول تحجيم الثورة مادياً ومعنوياً.
خامساً: إن غياب الإجابة على السؤال الباحث عن ماهية التجمع من قبل السلطة الغاشمة، كان حافزاً للشارع السوداني للمضي قُدماً في مشروع الثورة بغية الوصول بها إلى نهايتها المنطقية، والمتمثلة في اقتلاع النظام من جذوره. ذلك بدليل استمرار التظاهرات وهي غير عابئة بما صدر عن السلطة بما في ذلك قانون الطوارئ الذي صادر الحريات جميعها، ومن المفارقات كان التحدي الأكبر عدم توقف المظاهرات أثناء إلقاء الرئيس المشير خطاب الطوارئ نفسه، كأنما الأمر لا يعني الناس في كبير شيء.
سادساً: إن الإدراك بل القناعة التامة بأن السلطة الحاكمة أصيبت (بهاء السكتة) ودخلت كواليس انسداد الأفق السياسي، علاوة على أن عجزها في مواجهة القضايا الاقتصادية التي ما تزال شاخصة أبصارها تبتغي حلاً. أضف إلى ذلك تضعضع السلطة من داخلها متمثلاً في غياب المدافعين عن بطلان مشروعها. وظهور شرذمة من (المستردفين) الذين أوكلت لهم تلك المهمة نيابة عن أصحاب المشروع. ذلك كله كان حافزاً للمضي قدماً في مشروع التغيير بحسبه سيؤتى أكله ولو بعد حين.
هكذا مضت بنا الأحداث علواً وهبوطاً، علواً في ثورة تتمدد يوماً إثر يوم حتى بلغت سنامها في إيجاد حاضنة اجتماعية تحتويها بدخولها كل بيت، وبأهازيجها التي ظل يرددها الصغار والكبار. إزاء هذا النجاح النسبي كان من الطبيعي أن تبرز أسئلة من حين لآخر، أكبرها السؤال القائل ثم ماذا بعد؟ أو باختصار ما العمل؟
هذا سؤال مهيب يحمل في جوفه الكثير ولا يقف عند محطة سقوط النظام. بل سيتمدد ليشمل القاعدة التي أقمنا عليها بنيان الثورة نفسها: وهي كيف يُحكم السودان؟ ومن الطبيعي أن يلازمنا هذا السؤال حتى نجد له ترياقاً يحصٍّن الثورة من مغبة الوقوع في ما لا يحمد عقباه. مع الوضع في الاعتبار أن الإجابة لا تحتمل التلكؤ ولا التردد ولا الاستهانة، طالما أنها مرتبطة بمصير أمة تقف الآن بين خياري أن تكون أو لا تكون.
من هذا المنطلق سنعمل على مطابقة القول بالفعل، مهتدين بقيم الحرية والديمقراطية والشفافية في حوار بناء يُرسِّخ في أذهان القاعدة العريضة التي نستند عليها مقولة أن البديل يتمثل في الكيفية التي سيُحكم بها السودان كما ذكرنا. وفي هذا المضمار نضع الملاحظات التالية بين أيدي القراء ومن يهمه الأمر:
أولا: بحكم مجريات الواقع الجغرافي، فإن تجمع المهنيين داخل السودان شغل نفسه بضرورات استمرارية الثورة، وذلك عبر تعميم موجهات دورية، وقد نجح في ذلك نجاحاً منقطع النظير أرهق السلطة الغاشمة، بدليل امتثال الشارع لتلك الموجهات واستمرارية التظاهرات كوقود ضروري للثورة.
ثانياً: من جهة أخرى كلنا لاحظ الصمت المريب الذي ران على دول الإقليم بل والمجتمع الدولي برمته منذ اندلاع الثورة، وبعضها عبَّر عن موقفه باستحياء، علماً بأن جميعها وليس بعضها على علم بأن النظام الذي يحاربه الثوار انتهك القيم التي تستقي منها بعض هذه الدول كينونتها، ولهذا كان الظن إن لم يكن الأمل بأن هذه الدول لن تحتاج لجهد كبير في الانحياز للثورة بقيمها النبيلة. ولكن في ظل انحسار كل ذلك، طرأ السؤال الغائب الحاضر سالف الذكر يبحث عن تفسير.
ثالثاً: يمكن القول إن أحد أسباب التفاعل البطيء للمجتمع الإقليمي والدولي يكمن في عدم وجود غطاء سياسي لتجمع المهنيين في الخارج، غطاء يسعى لمخاطبة الدول باللغة المشتركة والتي تؤكد أننا لسنا في جزيرة معزولة من العالم، بل نؤثر ونتأثر به. علاوة على أن المصالح المشتركة بيننا ودول العالم قاطبة عبث بها النظام، وهو ما كان ينبغي تأكيده في الخطاب الموجه لهذه الدول درءاً لمخاوف وهواجس محتملة.
رب قائل نبث إنه ليس على تجمع المهنيين جناح ولا تثريب في تباطؤ أو تلكؤ دول العالم، باعتبار أنه صب جل خبرته في تحريك العمل الداخلي وهو الأهم، في مقابل قلة خبرة بائنة بمجريات ما يحدث إقليمياً ودولياً، لا سيَّما، وأنه واقع محفوف بالمخاطر التي تستلزم الحيطة والحذر، لكن ذلك لا ينبغي أن يرقى لدرجة (الهجسفوبيا) فالحلال بيَّن والحرام بيَّن ولا يقع في الشبهات إلا الغافلون.
رابعاً: لعل ما يميز هذه الثورة توحد والتفاف السودانيين حولها في المهاجر والمنافي وديار الاغتراب، وتسابقهم للتعبير عن مشاركتهم بالطرق التي يستطيعونها. وهؤلاء مثلوا حاضنة اجتماعية إضافية ووقوداً للثورة أيضاً على الرغم من تباعد الجغرافيا. لكن يلفت النظر أيضاً إلى أن القائمين على تجمع المهنيين في الداخل لم يستطيعوا استثمار هذه الفرصة في ربط الداخل بالخارج عبر عمل أكثر فاعلية، وبرامج مشتركة وخلق قنوات للتواصل الطبيعي. وبالتالي تكاثرت أسئلة الخارج دون سميع وتفاقمت الاستفسارات دون مجيب.
خامساً: من باب سد الذرائع خطى تجمع المهنيين خطوتين فاعلتين، الأولى قام بتسمية متحدثين باسمه، وهؤلاء بذلوا ما في وسعهم للتعبير عن توجهات التجمع وهي خطوة لاقت استحساناً لكونها عملت إلى حد ما على تغطية بعض النقص المشار إليه، وبحسبها عالجت جزئياً النقص الذي تمور به صدور سودانيي المنافي قبل صدور المراقبين من المجتمع الدولي. لكن من الواضح جداً أن هؤلاء المتحدثين يبدو أنهم مكبلون بقيود بيروقراطية لا تتسق والزخم الثوري الذي نعيشه، ينبغي تزويدهم باستمرار بالذي يمكن أن يساعدهم على أداء تلك المهمة على الوجه الأكمل، وما أيسر ذلك.
سادساً: على ذات الصعيد أثلج صدور المهمومين الخطوة التي قامت بها نقابة الأطباء الشرعية، متمثلة في عمل عظيم أقدموا عليه، وذلك بطرح برنامج متكامل للخدمات الصحية ليكون بديلاً جاهزاً للتطبيق الفوري حال سقوط النظام الديكتاتوري، خاصة وأن القطاع الصحي كان الأكثر تدميراً من قبل جلاوزة النظام الطفيليين. وللخطوة هذه مدلول آخر يتمثل في الانعتاق من ثقافة الشمولية التي رزئنا بها من قِبَل النظام الحاكم، فالبعض يظن لكأنما كيان تجمع المهنيين يجلس أفراده في برجٍ عاجيٍ ويصدرون الأوامر تلو الأخرى، وهذا محض أوهام ناتجة عن ثقافة الشمولية التي ذكرنا. فالديمقراطية التي نروم لها والحرية التي نتوق إليها تؤكدان أننا جميعاً شركاء في هذا الوطن، ولا فضل لواحد على الآخر إلا بقدر عطائه الوطني. وهذه الشراكة تستلزم أن نكون ايجابيين بتقديم كل ما يدفع الثورة إلى الأمام كما فعلت نقابة الأطباء دون انتظار فرمان يتنزَّل علينا من علٍ!
سابعاً: وهنا مربط الفرس في الإجابة على سؤال البداية القائل ما العمل؟ انطلاقاً من النقطة أعلاه في (سادساً) عنَّ لنا اقتراح يسد هذه الثغرة القائلة إن عدم تجاوب المجتمعين الإقليمي والدولي يرجع إلى غياب غطاء سياسي في الخارج يُخاطب تلك المجتمعات. الغريب في الأمر أن اقتراحاً وجيهاً من قبل التجمع بتكوين مجالس استشارية وجد طريقه للتنفيذ جزئياً بتكوين مجلس في بريطانيا، وبعده تباطأت أو تقاعست أو ربما ماتت الفكرة والمنتظرون لا يدرون من أمرها رشداً. ولكن إن لم يكن ذلك كذلك فاقتراحنا يهدف إلى حث السودانيين للاستفادة من ثقافة الديمقراطية الانتخابية في الدول التي يعيشون فيها لسنين عددا، وأصبح هناك وجودٌ سودانيٌ مكثفٌ لا تخطئه العين، بل قد تجلى بوضوح في تظاهرات المساندة، خاصة في القارات الثلاث أستراليا وأوروبا وأمريكا الشمالية / كندا، ويمكن إضافة بعض الدول الأفريقية (بالطبع ذلك ليس ممكناً في ما يتعلق بالدول العربية) وذلك باختيار ممثليهم، فإن هذا من شأنه أن يكون تمريناً مفيداً للديمقراطية القادمة، وتؤكد في نفس الوقت أننا جديرون بالديمقراطية وقادرون على ممارستها وجعلها هادياً لوطن نطمح في خروجه من الظلمات إلى النور!
وتسقط _ بس
آخر الكلام: لا بد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!!
faldaw@hotmail.com