” عكف د. الترابي فى أخريات أيامه على تقديم فكرته حول المنظومة التوحيدية الخالفة وتحاور حولها مع قيادات إسلامية ووطنية، وفي سبيل ذلك شارك بقوة وعزيمة في الحوار الوطني الذي دعا إليه الحزب الحاكم. وكانت آخر وصاياه للمحيطين به أن يمضوا فى طريق التحاور والتسامح والتراضي والتوافق …
وذلك للتوصل إلى رؤى مشتركة لفهم الواقع والتقدم منه إلى مستقبل تتواصل فيه حركة الإحياء الإسلامي ولا تنتكس “
د. أمين حسن عمر يفصل في هذه الورقة ماهية المنظومة الخالفة وسبيل تحقيقها ..
موقف الترابي في الدعوة للتوالي والتوحد ليس أمراً جديداً حادثاً لديه، بل هو مؤسس على رؤيته التوحيدية التي أسس عليها كل أشكال التوالي الإسلامي التي أسسها ابتداءً من الجبهة الإسلامية للدستور التي جمعت النخبة الإسلامية المثقفة من الإسلاميين الجامعيين إلى جماعات المتصوفة إلى حركة أنصار السنة السلفية. وكذلك كان الشأن في جبهة الميثاق الإسلامي ثم الجبهة الإسلامية القومية والتي ضمت بعضاً من القوميين الإسلاميين إلى جنب أولئك الآخرين. وتوسع أكثر في الفكرة بعد نجاح حركة التغيير فى يونيو 1989م، لينشئ المؤتمر الوطني الذي ضم قطاعات أوسع من المثقفين من القوميين وقدامى اليساريين ممن فارقوا الحزب الشيوعي أو الاتحاد الاشتراكي. وضم قاعدة واسعة من الجنوبيين وعدداً مقدراً من المسيحيين. وكان المؤتمر الوطني يؤشر باسمه وتنظيمه وفكرته العامة على الرغبة في تأسيس تحالف سياسي إسلامي وطني. ولكن ظروف نشأة التنظيم في مناخ مجانبة ومغالبة مع قوى وطنية مقدرة مثل الأحزاب الوطنية التقليدية وبعض الجماعات القومية واليسارية لم تسمح بتحقق الفكرة كما أحب الدكتور الترابي. ولم تتسع منظومته كما أراد لها، بل أنها تفككت بعض الشىء بانسلاخ أفراد وتيارات منها ثم بالمفاصلة المعلومة. وأدى هذا الانحسار إلى بذل المؤتمر الوطني جهوداً لكسب ولاءات جديدة. ولما استيأس من الأحزاب طلب ولاء القبائل والعشائر بديلاً عنها. ولا شك أن مثل هذا النوع من الولاء المؤسس على عصبية الجهة والقبيلة لا يخلو كما وصفه الترابي من «نفاق في إبداء الولاء ولا سيما في رفع شعارات الدين وهتافاته العامة» كما أنه يجعل الارتباط بالسلطة مدفوعاً بالرغبة في حظوظ تنال أو كسب مال، وإيثار للمتاع العاجل، ثم أنه يدخل الحزب فى صراعات ومنازعات لا تؤسس على تفاوت في الأفكار وإنما تنافساً بين القبائل والعشائر. والترابي نفسه يتحمل جزءاً من ذلك الوزر، فقد بدأ إبان زعامته للمؤتمر، لكن أمر استقطاب العشائر والقبائل اتسع بالمفاصلة وأصبح الأمر فى كثير من الأحيان كأنه أمر توازنات بين هذه القبائل والعشائر، فلا تفضيل بين الكفاءات أو تفاضل بين الرؤى والسياسات، وإنما استرضاء وكسب ولاء. وقد رأى الناس حتى في قيادة المؤتمر الوطني نفسه كيف احتدم التنافس القبلي بغير ورع ولا تقوى واحتدت الحمية للقبيلة، واشتد التنابذ والتفاخر، بل واستعرت النزاعات القبلية. وتفاقمت رغبة القبائل في تولي مناصب السلطة في المركز والولايات حتى اضطرت القيادة للتدخل في جعل أمر التعيينات الولائية مركزياً، لكن حتى تلك التعيينات الاتحادية المركزية لم تبرأ من ملاحظة الموازنات القبلية. وقد أدرك الجميع أنه لا بد لهذا الأمر من إصلاح، فقامت طائفة كبيرة داخل المؤتمر الوطني داعية لإصلاح الحزب والدولة، وترافقت هذه الدعوة مع تغير المناخ إيجاباً مع المؤتمر الشعبي الذي يقوده الدكتور الترابي، فالتقت الإرادات على إنجاح الحوار وتوسيعه وجعل مخرجاته مدخلاً لإصلاح شامل ليس لنظام الحكم بل لنظام السياسة والشأن العام بأسره وأجمعه..
المنظومة الخالفة ما هي؟
ومثلما تعود الدكتور الترابي فقد مهد لرؤيته السياسية برؤية فكرية. وبدأ بذكر دواعي الانتظام الوطني، فقال: «إن العظات والعبر في تجارب العالم الإسلامي وفي سيرة السودان خاصة تهدي اليوم إلى رؤية هادفة نحو منظومة خالفة يتوالى الناس فيها طوعاً وعفواً في محورها تتواد نفوسهم فيها إخلاصاً لا بإغراءات العطاء المرغوب، بل لدواع تتواتر اليوم منها أن يُتقى دفع عواطف جياشة تهم بإهلاك النظام الحاكم والقضاء عليه ولو بالمعانفة والمغالبة والمقاومة أو المحاربة»، «أو ممن هم خارج السودان وعلى غير ملته لا يريدون فيه ظهورالمنهج إسلامي أصيل يثمر واقعاً قد تمتد آثاره مجاهدة لنفوذهم ومعرضة مصالحهم ومشروعاتهم العالمية للخطر»، ويمضي للقول: «والدواعي للمنظومة المتجددة ذات المقصد الجليل هي أن يقام الدين وفقاً لهواديه إلى الحق الرباني، وتصويباً لقصور تقاليد تطبيقه الحاضر، وبشرى لمسير حياة فى الدنيا أقوم وأرشد وأصلح في خصوص المسلم ومجتمعه وفي عموم شأن معاشه وسلطانه في السودان وصلاته بالعالم، وكذلك فى سبيل حياة أخرى تترتب نعيماً وسعداً خالداً ورضواناً من الله». وأطراف هذه المنظومة هي فئات وأحزاب وجماعات وأفراد ممن «كل من كانت له سابقة توجه إسلامي أو من كان غافلاً عن الدين معتزلاً عنه لكنه يتذكر اليوم ويقبل وكل من يواطن المسلمين وما هو في ملتهم، لكنه يطمئن لسماحتهم وعدلهم وجدوى مساعيهم فى الدنيا»، وهؤلاء هم ذات من توجه إليهم الدكتور الترابي ليؤسس بهم المنتظم الوطني الإسلامي في حزب المؤتمر الوطني، ولكنه هذه المرة يقبل بمنظومة تتكون من تنظيمات متوالية بدلاً من تنظيم يتكون من تيارات ومنابر في حزب واحد. والترابي ذو أمل كبير أن ظواهر التحولات الحاضرة في كل بلاد المسلمين «تكاد تبشر قطعاً بأن دعوة الإسلام وحركته المتجددة هى التوجه الأغلب المنظور مستقبلاً».
أما كيف تبنى هذه المنظومة فهي «تمضي وتتكثف بالمشاورات والتداعيات تناجياً أو تفاكراً»، وهو يأمل أن يتيح انفراج الأحوال بإنفاذ مخرجات الحوار الوطني وما يتيحه من حريات وروح توافق مناخاً ومهاداً لائتمار بين أولي القناعة بالفكرة لاسيما الفريقين المتفاصلين ليؤسس لهذا التكتل المنظومي، وهو «لا ينحصر في من هو في مواضي المتوالين فى تنظيم إسلامي سابق، بل يتبارك بحضور كل من يرجى فيه التهيؤ الأوفق للمبادرة».
وأهداف هذا الانتظام أنه «يصوب نحو مقاصد شاملة في الحياة مؤصلة على إحياء الدين في إحياء الحياة بعد مواته فى مجتمع ينتسب إليه هوية تقليدية». وذلك بالاجتهاد والتجديد الذي لن ينطلق تماماً حتى يتحرر تماماً من كل القيود. ولذلك فإن المنظومة تهدف لتهيئة الظروف لما يسميه الترابي فتحاً مبيناً في تحرير المواطن والإنسان حرية عقيدة وحرية فكر وحرية تنظيم وتوالي، وحرية تحرك وتعبير. وهي حريات لا تحدها إلا الضوابط التى يتراضى عليها المجتمع في توازن دقيق، فلا تحبس الحريات ولا تحجر باسم الصالح العام، ولا يسمح لها أن تطغى «فتصبح بغياً وعدواناً على الآخرين مما يثير رد الأفعال، وقد يجر إلى الصراع والفوضى والضراء»، والدكتور الترابي يفصل فى رؤيته صورة لحكم فيدرالي للسودان تتوازن فيه السلطة بين التشريع والتنفيذ، وبين المركز والولايات. ويخص الحكم المحلي بمزيد اهتمام وهو مستوى دستوري ينتخب التنفيذيون فيه والتشريعون، ويعطى من الصلاحيات المالية والموارد ما يمكنه من تولي «الهموم الفرعية والخدمات المباشرة». وهو يجمل أهداف هذا المنتظم الوطني بأن توجهاته أصولية وإنسانية. وهو مشروع إصلاح للمجتمع أوضاعاً وأخلاقاً ومنهجاً. والمؤسسون له هم المسؤولون عن تحرير الأهداف وبيانها وفق ما يتوافقون عليه. وهو يتفاءل بأن مخرجات الحوار الوطني سوف تعبد الطريق وتهيئ المناخ لهذا الوفاق الفكري والتوالي التنظيمي. وهو ينفي أن تكون المنظومة حزباً همه التنافس على السلطة، ولكنها تحالف وطني يسعى لإصلاح الحياة بصورة شاملة وبخاصة في شؤونها العامة التي تعم بها البلوى.
وهو لا يتوقع أن يندرج فيها الجميع وسيبقى بلا شك من يخالفها ويعارضها، ونهج المنظومة بازائهم هو أنها «تؤثر الحوار والمجادلة والمعاملة الحسنى وتجتنب المنابذة والمهاترة، وأنها ترد أيما تحية بأحسن منها والسيئة من قول الآخر بالتي هي أحسن»، وهي منفتحة للتعاون والائتلاف مع الآخرين. والترابي يؤثر التحرك ابتداءً من ديمقراطية توافقية إلى ديمقراطية تنافسية متى كان المناخ مهيأً لتنافس يحقق أهداف الأمة ولا يهدم الاستقرار والأمن. والدكتور الترابي يريد لهذا المنتظم الوطني أن يستصحب الصفة الإسلامية فتكون «مستصحبة غير مستغربة» دون حاجة إلى أن تظهر في الاسم . وهو لا يريد لها أن تحمل أية إشارة لحزب ولو صار جزءاًً من مكوناتها مثل الوطني والشعبي. وهو يصف المنظومة بكونها أقرب للتكتل الجبهوي، فهي أوسع من كونها حركة أو تياراً. وهو يفضل أن يرد فى اسمها إشارة لهدف عام مثل الإصلاح والعدالة أو النهضة، ولكن التسمية حقٌ للمؤسسين، بيد أن الأسماء تحمل إشارة للمغزى من تأسيس هذا التكتل الوطني.
هل من سبيل:
ولعل السؤال الذي يخاطر بال القارئ هل من سبيل لتحقيق هذا الرجاء الأخير للدكتور الترابي، في بناء جبهة وطنية تأسس على الفكرة والأخلاق الدينية وتتوحد على الرابطة والآصرة الوطنية وتترقى بالعلم والتطور المتواصل في مراقيه، وتتقوى بالتنمية وتتماسك بالمساواة والعدالة والتكافل والتناصر. ولا شك أن الإجابة عندي أن التفاؤل أولى من التشاؤم. وأن الثقة لدي متوفرة برشد أهل السودان قيادة وقاعدة أن يتعظوا بما يجري في جوارهم من أمم تتخطف ودول تتداعى وتتهالك وشعوب تشرد في أنحاء الأرض، فيقلون من التعصب الحزبي والقبلي والجهوي الذي لم يزد الناس إلا خبالاً. وأن يقبلوا على مرحلة جديدة لا يصر فيها المتمكن بالسلطان أن يفرض إرادته بغير وفاق مع الآخرين، ولا يسعى معارضوه إلى المعانفة والاستنصار بالغريم للوطن لإقصاء المتمكن والتمكين لاستبدادهم بالأمر. لقد شهد السودان ائتلافات واندماجات سياسية صمد بعضها وتهاوى البعض الآخر، ولكنما إذا أدرك الجميع أن واجب الوقت يقتضي ترك التشرذم والتفتت وبناء الوحدة والتوافقات السياسية والوطنية فإن شكلاً من أشكال المنظومة الخالفة يمكن تحقيقه. وهو بناء يرسم ملامحه قادة وزعماء يكون ولاؤهم للدين والوطن فوق كل ولاء، حينئذٍ لن يخرج السودان من مضيق الأزمات إلى سعة الاستقرار والنماء فحسب، وإنما سيكتب فصلاً مهماً فى سفر تاريخ أمة الإسلام التي ستظل طائفة منها ظاهرة فوق الأمم بإذن الله إلى يوم القيامة، والله غالب على أمره ولو كره الكافرون