انهمكت، الأسبوع الماضي، جرياً على عادة لديَّ في
الاطلاع، أراجع بعض المطبوعات القديمة، مع أنَّني قد أكون طالعتها أوان صدورها، بل
وقد أكون، فوق ذلك، تناولت بعض محتوياتها بالتَّعليق، ومن بينها أعداد من مجلة
«الرَّافد» الثَّقافيَّة الشَّهريَّة الغرَّاء التي تصدر عن دائرة الثَّقافة
والإعلام بالشَّارقة، بدولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة، حيث لفتت نظري كلمة
بقلم مدير تحريرها، ضمن أحد تلك الأعداد الصَّادرة قبل سنوات، حول ما أسماه “السِّمة
الأفريكانيَّة الأكثر وضوحاً في ثقافة أهل السُّودان»، قائلاً إنها «ليست غائبة في
بقيَّة البلاد العربيَّة كحقيقة تاريخيَّة واقعيَّة بقدر غيابها المفهومي عند بعض
الدَّوائر القارئة لطبيعة الثَّقافة العربيَّة». كان ذلك بمناسبة المهرجان الذي
أقيم هناك، وقتها، تحت عنوان «أيَّام الثَّقافة السُّودانيَّة»، حيث لاحظ الكاتب
عن حق «انفساح الآفاق على أنساق الثَّقافة والفنون بتنوِّعها وثرائها الحمَّال
لأوجه السُّودان المتعدِّد ثقافيَّاً والموحَّد في التَّناص الإبداعي الإنساني”.
مع ذلك، بل ربَّما لذلك، يصعب الاتِّفاق مع الكاتب حول
ما ساقه في تبرير اختيار الخرطوم «عاصمة للثَّقافة العربيَّة» عام 2005م، العام
الذى شهد، من بين ما شهد على وجه مخصوص، إصدار الدُّستور الانتقالي، تأسيساً على
ما تمَّ التَّوصُّل إليه من اتفاق سلام شامل حمل اسم ضاحية «نيفاشا» الكينيَّة،
حيث جرى، وقتها، تفاوض مضنٍ بين حكومة السُّودان، من جهة، وبين «الحركة
الشَّعبيَّة/ الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان»، من جهة أخرى، فأوقف حرباً
أهليَّة ضروساً كانت قد اندلعت فى جنوب البلاد، وتواصلت منذ العام 1955م، مع
تباشير الاستقلال السِّياسي، باستثناء بضع سنوات، لأسباب كان من بينها الإصرار على
اعتبار «الثَّقافات السُّودانيَّة»، بقضِّها وقضيضها، وبكلِّ تعدُّدها وتنوُّعها
السُّودانويَّين، «ثقافة واحدة .. عربيَّة»! ثمَّ ما لبثت تلك الحرب أن تفاقمت،
لاحقاً، حتى أضحت نموذجاً يقتدي به معظم «هامش» البلاد، بينما تجاوزت اللافتات
التى تخندق تحتها أهل الجَّنوب، وبقيَّة هذا «الهامش»، مجرَّد المطالبة المتواضعة
القديمة بالحكم الذَّاتي الاقليمي، إلى المطالبة بحقوقهم فى «السُّلطة والثَّروة»
اللتين رأوا أن «المركز» قد استأثر بهما، بل والأخطر .. المطالبة بحقِّهم المشروع
في تقرير المصير!
ورغم المشكلة الكامنة فى اعتبار
“الأفريكانيَّة” محض «سِّمة» في “السُّودان العربي”، وهى،
للدِّقَّة، مشكلة اصطلاحيَّة ومفهوميَّة سائدة في معظم الكتابات حول هذه المسألة،
سواءً في السُّودان أو في العالم العربي، إلا أن المرء لا يمكنه، مع ذلك، ألا
يتَّفق مع ما ذهب إليه الكاتب في ما يعني أن هذه «السِّمة» لا تعكس، فحسب، خللاً
في استقبال الصُّورة التَّاريخيَّة الواقعيَّة للسُّودان في الذِّهنيَّة العربيَّة
عموماً، بل، وفوق ذلك، في فهم طبيعة “الثَّقافة العربيَّة” نفسها. ولكن
الكاتب المحترم ما يلبث أن يستنتج أن في «استعادة الخرطوم الثَّقافي لهذه
(السِّمة) تنبيه ضمني لحقيقة مغيَّبة في كلِّ العالم العربي، الأمر الذي يعتلي
بالقيمة المعنويَّة الدَّلاليَّة للخرطوم كعاصمة للثَّقافة العربيَّة .. الخ».
فهو، إذن، يسقط المشكلة، بالكليَّة، كمشكلة علاقات داخليَّة قائمة، بالأساس، في
الاقتصاد السِّياسي لطبوغرافيا “التَّساكن العربي”، فلا يرى الحلَّ إلا
في «استعدال» صورة “الثَّقافة السُّودانيَّة” في “الذِّهنيَّة
العربيَّة”، لا كجماع «ثقافات»، وإنَّما كـ «ثقافة» واحدة تحمل “سمة
أفريكانيَّة”، أما فى ما عدا ذلك فإن هذه “الثَّقافة” تبقى، في
مجملها، “عربيَّة”!
ولا يساورني أدنى شك في أن الكاتب وضع هذا «الاستنتاج»
نصب عينيه، أولاً، ثمَّ أسَّس عليه «مقدِّماته»!
لقد كنت، وما زلت، أرى أن المنهج الأصوب هو ذلك الذي
عالج به د. إيليا حريق هذه المسألة، ضمن تقديمه للطبعة الأولى من كتاب د. عبد الله
علي إبراهيم «الثَّقافة والدِّيموقراطيَّة في السُّودان، دار الأمين، القاهرة
1996م»، ليس فقط من حيث تنبيهه إلى أن الحوار الفكري القائم، منذ زمن، حول
التَّعدُّد والتَّنوُّع الحضاريَّين في السُّودان “ظلَّ بعيداً عن المحاور
الفكريَّة الأساسيَّة الدَّائرة في أجواء الفكر العربي المركزي” (ص 8)،
وإنَّما تنبيهه، فوق ذلك، إلى أن هذا الفكر قد عالج “.. تلك المشكلة بشىء من
الخفَّة، إن لم نقل العداء”! فعلى الرُّغم من أن الدَّولة العربيَّة كانت،
دائماً، دولة متعدِّدة الشُّعوب والطوائف، إلا أن غلاة القوميِّين، والإسلامويِّين،
يحاولون القضـاء عـلى تلك التَّعـدُّديَّة التَّاريخـيَّة في سـنين وجـيزة”
(ص 12)، مـع أن ثمَّـة “.. حقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا وهي .. أن التَّكامل
القومي لم يتحقَّق في أيِّ بلد .. عن طريق الدَّمج وإزالة معالم الحضارات المخالفة
لحضارة الأكثريَّة” (ص 13).
***
kgizouli@gmail.com