منذ ديسمبر الماضي والى يومنا هذا شهدت بلادنا الحبيبة هبة شعبية غاضبة ترمي لاقتلاع نظام الإنقاذ من جذوره وإلقائه في أعمق مزابل التاريخ فقد اتخذ شعبنا قراره النهائي بأن ذلك النظام لم يعد جديرا بالبقاء ولا قابلا للإصلاح ولا مستحقا للمحاورة ولتفعيل ذلك القرار اعتمد شعبنا اسلوب المقاومة السلبية بتقديم التضحيات المتوالية واحتمال الضربات التي يسددها اليه النظام غير عابيء بجسامة ما يقدم من تضحيات رابضا كالاسد الهصور حتى تتبلور إرادة الشعب في اجماع كامل يسفرعن اسقاط النظام وهو النهج الذي ابتكره المهاتما غاندي وسارت عليه حركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج وأصبح سلاحا في ايدي الشعوب المهضومة لمواجهة مضطهديها من الطغاة والدكتاتوريين ممن يحتكرون القوة والسلطة ويستخدمونها ضد الشعوب.وقد اختار شعبنا افضل الاوقات للتعبير عن رأيه في ظل الغلاء وانعدام السيولة والتضخم الجامح وهي شبكة من الأزمات ليس منظورا ان تنتهي بين عشية وضحاها وبسببها سيبقي النظام في مرمي غضب الجماهير لعدة سنوات ان لم يكن لعدة عقود خاصة والنظام لاينهض لمواجهة الازمات وإن فعل فغالبا ما يلجأ للخيارات الخطأ
وقد التزم شعبنا بحرفية المقاومة السلبية الباسلة فتعرضت مواكبه لقنابل الغاز وللرصاص الحي وسقط شهداؤه في ميادين الشرف وسيق أبناؤه وبناته الى المعتقلات والسجون دون ان يستخدم أي نوع من القوة المضادة ليرد بها على عنف الدولة الصريح ايمانا بأن الحق ارجح من القوة الغاشمة وانه منتصر عليها مهما طال أمد النزال وبالفعل لم يثبت النظام الدكتاتوري الفاسد للمعركة فقام بانقلابه الأخير وهو انقلاب على نفسه وعلى الطلاء الدستوري الزائف الذي طلى به نفسه لتحسين مظهره امام المجتمع الدولي وبذلك سقط عنه القناع وانكشف وجهه المظلم لعين العالم الساهرة فزدنا قوة وعددا وزدنا ثباتا على حقنا ومطاليبنا. وليس أدل على ذلك من تخبطات النظام وهو يصدر فرمان الاحكام العرفية على غير الشكل المقتضى ويطيح بوزارته القائمة ورجالاته المعروفين ويتخلى عن حزبه الذي حكم باسمه ثلاثين من اعوامه البئيسة واقل ما يقال فيه هو انه يقوم بتغيير الحصان في منتصف النهر الامر الذي تعتبره الحكمة التقليدية حماقة كبرى وعلينا كماعلى كل قوانا الحية ان ترى في تلك التخبطات إيذانا باقتراب ساعة النصر وتضعضع المعسكر الاخر وفقدانه رباطة الجأش وعزيمة القتال فليس ممكنا لجيش مهما بلغ تعداده وعتاده ان يفلح في إبادة شعب كامل او اخضاعه لسلطة لا يحترمها ولا يؤمن بها والواقع ان تسليط الجيش على شعب بلاده هو الطريق الاقصر لتمرد الجيش وانحيازه الى شعبه وإيجاد الذرائع لعدم اطاعته أوامر الدكتاتور الذي يحكمه.واذا كان للدكتاتور ورجاله رأي سيئ في شعب السودان فان الأغلبية الساحقة من المدنيين والعسكريين لهم رأي مخالف فنحن على عكسهم نرى شعبا نبيلا كريما شجاعا ليس للدكتاتورية ان تهينه او تعلمه الخوف والرهبة او ان تحاول اخضاعه بالقوة ونرى انه سينتصرفي هذه المنازلة النهائية بين الحق والقوة الغاشمة.
melmekki@aol.com