يبدو أن من خططوا لمسرحية الانقلاب العسكري لم يعوا الدرس، ولم يعرفوا قدر الشعب السوداني الذي ينظر إليه اليوم العالم باحترام فائق، لتجربته المتفردة في مواجهة طاغية مسعور، كان على استعداد لأن يتخلص من كل أبناء هذا الشعب ليبقى، ويهرب من مقصلة الجنائية الدولية، التي قادته إليها أفعاله وجرائمه.
هؤلاء بقيادة عوض ابنعوف يريدون أن يقنعوا الشعب والعالم ببيان فطير لا يقنع طفلاً، ويتخيلون أن الشعب بمرارته يمكن يكون فريسة مرة أخرى لمكر الماكرين، وهو الذي ضحى وقدم الدماء على مدى 30 عاماً ليس في ساحات التظاهرات والاعتصامات فحسب، وإنما في معسكرات اللاجئين، وفي القرى الآمنة، حتى استوجب الأمر أن تطاردهم المحكمة الجنائية الدولية لرد حقوق من أهدروا دماءهم، وانتهكوا أعراضهم، وقضوا على مستقبل أبنائهم، بإحالتهم إلى لاجئين يتسولون الناس.
جاء البيان متهالكاً حتى في كلماته، التي حاولت اللعب
على الوتر الحساس، وأعني المعايش وتضييق الفرص، وقد قلنا سابقاً “ليس خبزاً
ولا وقوداً ولا نقوداً”، إلا أن بيان ابنعوف يعود بعد كل تضحيات الشعب ليحصر
مطالبه في توفير الاحتياجات والخدمات الضرورية، فلم يتضمن البيان شيئاً عن حجر
الحريات، والتضييق على الصحافة والصحافيين، ولا السهولة التي تتم بها الاعتقالات
لأبسط الأمور.
لم يتحدث البيان عن التجاوزات التي صاحبت الحراك
الشعبي طوال أربعة أشهر تعرض فيه شعبنا للقتل، والسحل، وانتهاك الحرمات، وترويع
الآمنين، والهجوم على المنازل والمستشفيات من دون مراعاة لأبسط حقوق الإنسان، حتى
اضطرت الحكومة إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، ألم يكن من المهم التنويه ولو عرضاً
لما يطمئن الإنسان السوداني بأنه سينال حقه، وسيقتص من كل من تسبب في بث حزن مقيم
في قلب كل أم وأب وابن وأخت وأخ.
المجلس العسكري يبدو متوجساً من الشارع الذي قاده
جبراً إلى خطوته هذه بعد تردد طويل، فكان اهتمامه الأول بفض الاعتصام من خلال
قانون الطوارئ.
وفات المجلس أن مثل هذا القانون أصدره من قبل من قالوا
إنهم اقتلعوه ونظامه، فهل أجدى فتيلاً مع شعب ثائر يريد أن ينال حقه، ولا يهمه ما
يدفعه من ثمن بعد أن ضاقت به السبل، ونفد صبره؟
وهل يعقل بعد أن دفع البلد الثمن بسبب رئيس مطلوب
للجنائية، مما أدى إلى محاصرته اقتصادياً حتى أصبح يستورد قطع غيار طائراته (أيام
كانت له طائرات) من خلال شركات طيران أخرى، وهكذا لكل الاحتياجات الضرورية التي
ينبغي أن تستورد من الخارج، هل يعقل بعد هذه التجربة المؤلمة أن تكرره مع مطلوب
آخر هو رئيس المجلس العسكري.
وهل يمكن أن يستمر النظام القديم ممثلاً في الرئيس
ابنعوف ونائبه كمال عبدالمعروف؟ أفقد هؤلاء الرؤية أم أنه الاستخفاف بالشعب وتطلعاته
كما لو أن حواء السودان قد عقمت؟
لقد كانت تجربة الترابي والبشير اللذين ذهب أحدهما إلى
السجن والآخر إلى القصر محكماً إلى حد كبير، لكن ابنعوف وعبدالمعروف (عملوها
ظاهرة) ويظنان أن تمثيليتهما يمكن أن تنطلي على الشعب، وهي ليست بحبكة سابقتها، التي
عرفها أهل السودان لاحقاُ، باعتراف مباشر من أصحابها.
هناك فارق زمني بعيد في طريقة التفكير بين جيل
الديناصورات وجيل القرن الحادي والعشرين، ولعل أطرف تعليق جاء من مواطن سوداني قال
إن هؤلاء يبدون كما لو أنهم أتوا من كوكب آخر، وكأنهم لا يفهمون لغة شعب الذي من
المفترض أنهم منه.
لقد أصبح الشعب السوداني قادراً على امتصاص الصدمات،
وتحويل المعوقات إلى طاقة إيجابية تستفز دواخله ليأتي بأجمل ما فيه من قول وفعل.
ومن الأفضل لهذا المجلس ألا يضيع وقت الشعب السوداني
الذي يحتاج إلى كل ثانية من أجل إصلاح ما أفسده نظام الإنقاذ، ومن الأكرم لهم أن
يتركوا في النفوس ذكرى طيبة، فلا يمضوا في طريق من احتجزوه في مكان آمن يصارع
الكوابيس جراء ما اقترفت يداه، لأن الشعب السوداني سينال حقوق كاملة غير منقوصة
أراد من أراد وأبى من أبى.
إنه شعب ولد من جديد، وهو في كامل عنفوانه بشبابه
الجميل الذي أصبحت مغازلته ديدن النظام وتوابعه منذ ثورته المباركة.
ابنعوف (ما تضيع وقتنا).