معلوم أن الدولة التي كانت قائمة لثلاثة عقود هي الدولة العميقة بامتياز، أو دولة الحزب “العقائدي” الواحد، الذي هيمن علي كافة مفاصلها، ومكّن لاعضائه ومنسوبيه في الخدمة المدنية والمؤسسة العسكرية، وعمل علي إنشاء مؤسسات بديلة ومليشيات وكتائب ظل حسب تصريحات قادته، وقد رآهم السوادنيون في الشوارع رأي العين، يعملون في المتظاهرين قتلاً وسحلاً واعتقالاً وتنكيلا !
مثل هذه الدولة العميقة إسقاطها كان يبدو كأنه من رابع المستحيلات، خاصة وأنها كانت متسربلة بالدين، مما جعلها تجد هوى في نفوس كثير من عامة الناس الذين لا يملكون الوعي الكافي؛ لإدراك أن الأمر أمر دنيا قد عملوا لها ليل نهار، وقضت باسم الدين أيضاً علي الأخضر واليابس، وأفقرت البلاد والعباد.
ولكنها وفي نهاية المطاف تمّ إسقاطها، بعد أن دفع الشعب الثمن الأكبر من دماء أبنائه.
الآن المهمة الأشد صعوبة هي ما بعد السقوط!
نجاح الثورة لا يمكن أن يتم إلا من خلال قوة عسكرية علي الأرض، تحمي ثوارها، وتسعى الي تحقيق أهدافهم.
وهذا الافتراض البديهي كان حاضراً في فكر وتخطيط الإنقاذ ومنذ أيامها الاولي، فقد تم هيكلة الجيش خلال الثلاثة عقود، وذلك بتسريح أصحاب الكفاءة، وإحلال أصحاب الولاء، وأصبح قادته أعضاء في الحزب الحاكم ، أو علي الأقل أعضاء في الحركة الإسلامية إلا قليلاً، والوصول إلى الذين لم يكونوا جزءاً من المنظومة الحزبية الحاكمة ضرب آخر من الخيال، والنظام البائد ليس علي درجة من الغباء بحيث يجعلهم ضمن قيادته العليا ورؤساء لهيئات أركان الجيش ووحداته المختلفة!
إذا ظلت الجماهير تطالب بإسقاط من يكون رئيساً للمجلس العسكري في كل مرة، وتستجيب القيادة طوعاً او كرهاً ، فسيأتي علي السودان كل يوم رئيس جديد ! وسيكون لدينا رئيس يعمل باليومية، ولن يكون فوق مستوي شبه الانتماء للحزب الذي كان حاكماً، خاصة في ظل تمسك قيادة الجيش واحترامها “للرتب” الأعلى، وحتي لو تمّ تغيير جديد سيكون بذات النهج حسب “الأقدمية”.
خلاصة الأمر ما لا يدرك كله لا يترك جله، ولا مناص من التعامل مع المجلس العسكري الذي تمّ تكوينه ورئيسه الذي يتمتع بمستوي مرضٍ من القبول، ومطالبتهم بتنفيذ مطالب الثورة، والصبر عليهم حتي يتم تشكيل حكومة مدنية، مع الاحتفاظ بوسائل الضغط الممكنة، وعلى رأسها الاعتصام القائم وسليمة الثورة واستمراريتها وإذكاء جذوتها وأوارها.