نهنئ الشعب السوداني الأبي على إنجازه التاريخي
بإسقاطه نظام الإنقاذ الذي جثم على صدره 30 عاماً، تقهقرت بلادنا خلالها تقهقراً
وضعها ضمن إطار “الدولة الفاشلة” بكل ما يعنيه هذا المصطلح من معانٍ.
وقد اكتسب السودان هذه الصفة المذمومة في عهد الإنقاذ
بسبب فقده جزءاً عزيزاً من أرضه وشعبه، من جراء السياسات الرعناء للنظام، وادعائه
إقامة مشروع حضاري أساسه الدين، بفهم قاصر، أقرب إلى همجية الغاب.
كما فقدت
الدولة في هذا العهد القدرة على السيطرة على حدودها، فدفعت مجموعات من المواطنين
إلى حمل السلاح، لإحساسهم بالظلم والغبن والتهميش، كما رتعت دول في الجوار في
أراضيها، لمعرفتها عجز النظام وقلة حيلته.
ومع افتقاد السيادة على كل أرض الوطن، تردت الخدمات وافتقد المواطن ضروريات الحياة الكريمة، وفوق ذلك تعرض لكثير من أنواع الذل والمهانة، بالتشريد الذي مورس على كثيرين، والإحالة إلى الصالح العام، وتمكين شريحة لا تمثل شيئاً كفاءةً وعدداً من مفاصل الدولة، حتى أصبحت مواردها نهباً لهم، إلى جانب مصادرة الحريات، والاستئثار بأجهزة الإعلام الرسمية، وتوجيهها لغسل الأدمغة، والدعاية لمشروعهم الإقصائي، والترويج لثقافة الموت تحت مفهوم الجهاد، الذي انخدع به كثير من الشباب، حتى دفعوا حياتهم مقابل وهم، تنصل منه لاحقاً من دفعوهم دفعاً إلى هذا المصير، فصوروا من قتلوا خداعاً بأنهم “فطايس” بعد أن كانوا يشمون “روائح الجنة”، وترسل لهم السماء هداياها من الغزلان، والأطايب.
وتعرض اقتصاد البلاد لتشوهات تمثلت في انهيار
المشروعات الكبرى، واختفاء بعضها تماماً من الخريطة الاقتصادية، وخضوع بعضها الآخر
لسطوة الشركات الرمادية، التي لا هي حكومية أو خاصة، وإنما بين بين، وتذهب
إيراداتها إلى جيوب أشخاص، أو لتمويل مؤسسات الحزب الحاكم، ومشروعاته التدميرية.
وبعد هذه الجدارة التي أكسب بها المؤتمر الوطني وقادته
وعلى رأسهم الرئيس المخلوع قسراً البشير الوطن صفة “الدولة الفاشلة”،
كان لا بد من أن ينتصر الشعب الأبي لكرامته، وأن يوظف كل خبراته في اقتلاع الأنظمة
المستبدة، وعبقريته في التعامل مع آلياتها الجبارة، وأساليبها الثعبانية، حتى
استطاع أن يصل إلى غايته بنتيجة حيّرت العالم، وستظل محلاً للدراسة والتمحيص، لما
لهذه الثورة الشعبية من خصوصية؛ لكونها لا تشبه غيرها من الثورات في كل العالم،
على مدى العصور.
وتصدر شباب السودان المشهد العالمي وأصبح حديث الإعلام الذي تجاهله طويلاً، حتى جاءه في النهاية منصاعاً، وباحثاً عن مصادر الدهشة فيه، لما تمتع به مادة ثرة تجذب أي إعلام تواق إلى الجديد المثير الذي يرضي متلقيه.
ويستحق تجمع المهنيين السودانيين التحية وآيات
التقدير، وقد أدار المعركة مع النظام الاستبدادي الشرس بحنكة واقتدار، وبنفس طويل،
مدعوماً من شعب لا يهاب الموت، ولا يستكثر الروح في سبيل رفعة الوطن، ومثّل إعلان
قوى الحرية والتغيير وثيقة وطنية جمعت القوى المدنية والأحزاب السودانية، فكانت
مصدر القوة، والشرعية الحقيقية للثورة، إلى أن تحقق هدف إسقاط رأس النظام، ثم واصل
الشعب ضغطه ليختفي من المشهد من لفظتهم جموعها، والآن نعيش المرحلة الثالثة
للثورة، بمجلس عسكري، وشعب في ساحة الاعتصام يحرس تحقيق مكتسباته على النحو الذي
يليق وتضحياته بالأرواح والأنفس.
وبعد هذا السباق الماراثوني الذي خاضه الشعب وهو يعاني
في حياته اليومية أشد المعاناة، آن له أن ينظر بعين التفاؤل إلى المستقبل، وهذا لا
يكون إلا إذ آمن من يتولون المسؤولية في المجلس العسكري أنهم أمام استحقاق وطني
وتاريخي، وهذا ما يوجب عليهم أن يحملوا الأمانة بحقها، لأنهم بين خيارين، خيار أن
يكونوا في سجل الشرف الوطني، أو أن يكونوا بين من لعنهم الشعب، وقذف بهم إلى مزبلة
التاريخ.
كما أن على ممثلي الشعب من القوى المدنية والسياسية
الترفع عن المكاسب الذاتية الضيقة، وممارسة الإيثار هذه المرة، فيقدموا القوي
الأمين، بدلاً من التدافع والتكالب على المناصب والمنصات، لأن كل شيء زائل، ويبقى
الوطن الذي يرتفع الجميع برفعته.
ويجب أن يكون التوجه نحو إيجاد ثقة متبادلة بين المجلس
العسكري والقوى الممثلة للشعب، والتركيز في تشكيل حكومة مدنية تضم الكفاءات
القادرة على تحمل مسؤولية هذه المرحلة الدقيقة، التي تستوجب في المقام الأول تطهير
آثار النظام السابق بإعمال القانون، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس راسخة؛
تجعلها تتحدث لغة العصر، ومن ثم، تتواكب معه خطوة بخطوة.
ويبدو من المهم جداً البعد عن أسلوب الإملاءات،
والعناد، والتمسك بلعبة السياسة التي تقوم على إعلاء المصلحة الوطنية، ومعرفة
استحقاقات كل مرحلة، وخصوصاً مرحلة التأسيس التي تتطلب تحديد الأولويات، والانتباه
إلى تأثير العامل الخارجي، وعلى رأسه العلاقات مع دول الجوار، وهذا يعني البدء
بالمشتركات قبل نقاط الخلاف من أجل إرساء الثقة، وتوسيع مساحة الاتفاق، حتى يأتي
وقت مناقشة الخلافات إذا وجدت على أرضية صلبة.
إن خريطة الطريق نحو النجاح تتمثل في سير السياستين
الداخلية والخارجية معاً بتناغم وبفهم لأبعادهما، وبنأي عن الهتافية والشعارات
الطنانة التي تجلب استهداف القوى الإقليمية والدولية، وتضرب المشروع الوطني في
مهده، لنعود إلى الدائرة الشريرة التي قعدت بالسودان، وكبلت قدرات أبنائه، وحجّمت
مكانته بين الدول، على الرغم من قدراته العالية وإمكاناته الهائلة بشريّاً،
وطبيعيّاً.