هذه وجهة نظر مقدمة كرؤية قانونية للإجابة على سؤال ما هو رأينا كسودانيين معنيين بمكتسبات قوى الحرية والتغيير في أمر تسليم البشير وبقية المتهميبن الى المحكمة الجنائية الدولية، مقابل محاكمتهم في السودان؟ وماهو الافضل للضحايا قانونياً؟
الشق القانوني يتعلق بحقيقة كون البشير مطلوب للمحكمة الجنائية بعد ان صدر أمر بالقبض عليه في 4 مارس 2009 بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية في دارفور. ورفض التعامل مع المحكمة الجنائية إلى أن صدر أمر قبض ثانٍ في مواجهته بارتكاب جريمة الابادة الجماعية في 12 يوليو 2010. هذا الاختصاص اخذته المحكمة بموجب نظام روما الأساسي الذي أعطى مجلس الأمن ان يحيل القضايا للمحكمة في حالة الدول غير المصادقة والتي ترتكب فيها جرائم تدخل في اختصاص المحكمة وتكون الدولة غير قادرة او غير راغبة. وبالتالى فان مسالة كونه مطلوباً استوفت الشق الاول من الناحية الموضوعية . الشق الثاني هو مسألة كون السودان دولة غير راغبة أو غير قادرة. في زمن ارتكاب تلك الجرائم كانت الدولة غير راغبة وكان نظام العدالة الجنائية مسيساً بما يعني أنها أيضا غير قادرة.
بانطلاق ثورة الحرية والتغيير أصبح هناك فرصة للتغيير في المراكز القانونية، بأن يكون السودان قادراً وراغباً في محاكمة الجرائم الدولية التي ارتكبت في دارفور. وفي هذه الحالة لابد من اثارة سؤال الاختصاص الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. فإذا حدث تحول حقيقي في استقلال نظام العدالة في السودان، فإن السودان يمكن ان يصبح صاحب الاختصاص الاصيل. هذا لان نظام روما الأساسي يعتبر نظام عدالة مكملاً، لا ينشأ اختصاصه إلا في حالة عدم الرغبة والقدرة لدى الدولة التي ترتكب فيها الجرائم.
نأتي للشق الأهم في علاقة المحكمة الجنائية الدولية بحكومة السودان بعد التحول الديمقراطي. الحكم الفصل في هذه المسألة هو نظام روما الأساسي. فالمحكمة الجنائية الدولية لن تقبل الاختصاص الوطني لمحاكمة الجرائم التي وضعت امامها الا بعد فحص الضوابط المتعلقة بكفاءة نظام العدالة الجنائية الوطني من كافة الجوانب، ومن ثم إعمال سلطاتها وفق نص المادة 19 التي تتيح للمتهم والدولة التقدم بطلبات الى المحكمة بما يعرف بمناهضة المقبولية Challenge of Admissibility. لقد كثر الحديث عن دور الضحايا في هذه المرحلة، فمن انهم اصحاب الحق الأصيل في تحديد مكان المحاكمة والاختصاص، والحقيقة ان نظام روما لم يعط الضحايا هذا الحق الذي حصره في المتهم والدولة وفق ما جاء في نص المادة 19/ 2 لكن منح الضحايا الحق في تقديم ما يعرف بطلب التدخل Amicus curiae للاستماع لرأي الضحايا عن المحاكمة المحلية للجرائم. ومن هنا يتضح ان هذا التساؤل هو في الأصل أمر قانون في المقام الأول.
الخيارات المطروحة أمام السودانيين:
يمكن لحكومة السودان توقيع اتفاقية مع المحكمة الجنائية الدولية بأن تعقد جلساتها داخل السودان لمحاكمة الاشخاص المطلوبين، وهذا وارد وفق نص المادة 4 /2 من ميثاق المحكمة الذي نص على أن ” للمحكمة أن تمارس وظائفها وسلطاتها، على النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي في إقليم أية دولة طرف، ولها، وبموجب اتفاق خاص مع أية دولة أخرى، أن تمارسها في إقليم تلك الدولة.
ويمكن ان يقوم السودان بالمصادقة على نظام روما ليصبح بذلك قانون المحكمة الجنائية الدولية جزءاً من التشريع السوداني، كما فعل كثير من الدول التي صادقت، وبهذا يكتمل الشق القانوني.
الشق الثاني هو المتعلق بمناهضة المقبولية على أساس اختصاص السودان، ونجاح هذا الاتجاه رهين بإصلاح نظام العدالة الوطني بشكل جذري بما يشمل الشرطة والنيابة والقضائية وكافة الاجهزة الاخرى المعنية بتنفيذ القانون، بالقدر الذي يجعلها تتوافق مع معايير المحكمة الجنائية الدولية، وبذلك يمكن للسودان التقدم بطلب وفق نص المادة 19 الى المحكمة الجنائية برغبته في ممارسة سلطة التكاملية Complementarity.
حق المتهم في مناهضة المقبولية:
يحق لعمر البشير وبقية المتهمين امام المحكمة الجنائية مناهضة طلبات السودانيين المطالبين بمحاكمتهم محلياً، وفي هذه الحالة يكون المطلوب من المتهمين تقديم حججهم على اساس ان نظام العدالة في السودان غير مستقل وغير مؤهل لمحاكمتهم، وهنا يكون النجاح في إصلاح نظام العدالة الجنائية في السودان، ليس في صالح المتهمين، ان هم رغبوا في المحاكمة في مقر المحكمة في هولندا. وبحسب قواعد الإجراءات في تقديم الطلبات فإن مقدم الطلب يكون عليه عبء الإثبات. فالمتهمون اذا تقدموا بطلب المحاكمة في لاهاي، يكون عليهم إثبات ان نظام العدالة في السودان غير مؤهل. وإن هم طالبوا بالمحاكمة في السودان، وقرر السودان تسليمهم، يقع عليهم عبء إثبات أن نظام العدالة مؤهل وراغب وقادر على محاكمتهم، خاصة وانهم سيواجهون عقوبة الاعدام في حال الادانة وفق القانون السوداني.
الجدير بالذكر أن سيف الإسلام القذافي قد تقدم بطلب الى المحكمة الجنائية الدولية وفق نص المواد 17 /19 / 20 مناهضا اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، بأنه قد تمت محاكمته عن التهم الموجهة إليه داخل ليبيا. ويطالب المحكمة باعتماد هذا القرار والامر بإلغاء التهم الموجهة إليه من المحكمة الجنائية. الا انه فشل في اقناع المحكمة وقد أصدرت قرارها برفض الطلب في 4 ابريل 2019 . المهم في هذه القضية بالنسبة لحالة السودان هو ان محاكمة عمر البشير وبقية المتهمين محلياً رغم إصدار أوامر القبض، هي مسألة مقبولة من المحكمة الجنائية، وقفا على الضمانات التي ذكرناها المتعلقة بقدرة ورغبة نظام العدالة الجنائية في السودان.
لأفضل للسودان والضحايا:
لدى البشير فرصة واسعة للحصول على محاكمة عادلة امام المحكمة الجنائية، فهو سيستمتع بكافة معايير حقوق الانسان في أسس المحاكمة العادلة وسيكون له ممثلون قانونيون على قدر عال من الكفاءة، ولكن العدالة الجنائية الدولية، بطيئة ومكلفة، كما اثبتت العديد من المحاكمات، فجمع البينات ونقلها والشهود والضحايا، إضافة الى التكالبف الأخرى لاقامة المتهمين وتمثيلهم القانوني يشكل عبئاً مالياً ضخماً.
التكاملية التي تنادي بها المحكمة الجنائية الدولية تقوم على ان أي متهم يجب ان يحاكم في بلده وان نظام العدالة في أي بلد يجب ان يكون مؤهلاً وشفافاً ونزيهاً. من حيث حق الضحايا في المشاركة في المحاكمات فان الأنسب للضحايا جميعهم ان يشاركوا في المحاكمات ليس فقط في الإجراءات وانما برؤية المتهم امامهم يحاكم بلغة يفهمونا ويرد على التهم المنسوبة اليه. ان عملية ابراء الجراح تعتمد على قدرة الضحايا في مشاهدة العدالة وهي تتحقق.