لا توجد دولة عميقة في السودان.. هذا تضخيم! كل شيء قابل للازالة وإعادة البناء ، وكأن الزمن الماضي على الماء نقوش:
التخويف بأن هنالك دولة عميقة متنفذة في السودان لا اساس له من الصحة. لا توجد دولة عميقة في السودان. توجد دولة (عنقالة) وقلع في السودان، تأسست بسياسة التمكين. وهي ليست بدولة عميقة بل تقع على السطح وقشرة المجتمع واقتلاعها لا يستدعي تجريف عميق. فالمؤسسات ظاهرة للعيان والاشخاص ظاهرين بالاسم. يمكن ان تطلق عليها اسم الدولة الزبائنية التي انبنت على الفساد والمحسوبية ولكنها ليست باي حال دولة عميقة.
تعبير الدولة العميقة ظهر في تسعينات القرن الماضي في تركيا عندما تعاونت المؤسسة العسكرية مع مهربي المخدرات ورجال العصابات وبعض رجال الأعمال لخوض حرب قذرة ضد الجماهير المنتفضة. ومفهوم الدولة العميقة يشير الى مؤسسات راسخة لها استقلالها عن السلطة الحاكمة بل تعمد في حالات ما لتغيير هذه السلطة الحاكمة كما حدث في تركيا وباكستان ومصر. مثل هذا لم يوجد في السودان. ليس هنالك جهاز استخبارات او مؤسسة عسكرية او شرطية او محكمة أو خدمة مدنية وجدت باستقلال عن سلطة الحزب الحاكم في السودان أبان حكم الإنقاذ.
وعندما تم تصدير المفهوم الى الغرب تلقفه صحافيون امريكيون وقليل جداً من الاكاديميين لتوصيف بعض اشكاليات الديمقراطية في الولايات المتحدة ويستعمل المفهموم للاشارة لمؤسسات الامن القومي بما فيها البنتاغون والمخابرات ومجمع صناعة الاسلحة وبيوت المال وبعض البنوك وتأثيرها الخفي على الرأي العام والسياسة الامريكية. وهو مفهوم يمت بوشائج قوية لنظرية المؤامرة الشهيرة. البعض أرجع الدولة العميقة في الولايات المتحدة الى عام 1871. الانقاذ لم تجد الوقت لتأسيس دولة عميقة في الثلاثين سنة الماضية. الدولة العميقة التى يتحدث عنها مايكل توماسكي وجورج فريمان وديفيد دبليو براون وكيفن شيب وآخرين جهاز مستقل عن الرئيس والحكومة والحزب الحاكم والانتخابات.
اما عندما نتحدث عن دول مثل تركيا وباكستان ومصر فالحديث هنا عن نخبة شبحية قاعدة في اجهزة الجيش والمخابرات والوزارات. وصلوا الى مواقعهم عن طريق تعليمهم بحكم التدريب والترقي في مؤسسات تتمتع باستقلالها النسبي. مؤسساتهم قديمة ذات ثقافة معقدة ومستقلة وفخورة فيما يتعلق باختيار الكادر الجديد والتدريب والتعيين والترقي المهني. الأمر لم يكن كذلك في زمن الإنقاذ.
اولاً، لم توجد زمن الانقاذ مؤسسات مستقلة عن الحزب الحاكم ذات ثقافة مختلفة رعتها اجيال من البيروقراطيين فالثقافة السائدة كانت ثقافة التمكين.
ثانياً، ثقافة المؤسسات نفسها تم تعطيلها وضرب بها عرض الحائط وتم تجاهلها من حيث الاختيار والتأهيل والتعليم، بل في بعض الاحيان تم تجاهل شروط اللياقة البدنية التى كانت تفخر بها بعض المؤسسات العسكرية والشرطية.
ثالثاً، الذين يحتلون تلك المواقع ليس بنخبة شبحية فالجميع يعرف لماذا أتوا ومن اين أتوا فهم معرفين بالاسم، خاصة في أعين أبناء وبنات مؤسساتهم. لم يحتلوا تلك المواقع بحكم التعليم والتدريب والترقي المضني بل بسياسة التمكين التى ابعدت منافسيهم المهنيين ، اقول المهنيين هنا، دع عنك منافسيهم السياسين، فسياسة الولاء هي التي أسست لدخول الخدمة ، للبقاء في الخدمة، والترقي فيها. باختصار لم تكن تلك المؤسسات تتمتع باي استقلالية عن الحزب الحاكم لتطور مؤسسة عميقة من تلقاء نفسها.
لنأخذ مؤسسة واحدة على سبيل المثال هي الجيش السوداني. الجيش السوداني ومنذ اتفاقية الحكم الذاتي عام 1954 احتكر بحكم طبيعة الاشياء ومثله مثل جيش أية دولة ذات سيادة، احتكرحمل السلاح واستعمال العنف بأسم الدولة. سلطة الانقاذ لم تصن لهذه المؤسسة هذا الشرف. وأنا هنا لا اتحدث عن حرب عادلة او غير عادلة، انما اتحدث عن الجيش كمؤسسة. هذا ليس بجيش دولة عميقة. والدليل هو ثقافة الضباط والجنود الذين حموا اعتصام القيادة من قناصة الدولة الزبائنية.
لذا ليس امامنا مهمة تفكيك دولة عميقة. امامنا مهمة فك دولة العنقلة والزبائنية من يد الحزب الذي لم يعد حاكما، وأن كان زبائنه موجودين. مؤسسات الدولة يجب استعادتها من اهل الولاء السابقين وفتحها لابناء الشعب حسب الكفاءة ولنبدأ بالمؤسسات العامة اولاً مثل التلفزيون القومي ووكالة الانباء والقنوات الفضائية التي بنيت بمال الخزانة العامة والصناعات الاستراتيجية المملوكة للدولة او التي صنعت بمال الدولة ابتداءاً من صناعة البترول وانتهاء بصناعة السكر. هذه المواقع لم تعد لأهل الولاء. دعنا نبدأ من هنا. ولكن قبل كل شيْ لابد من اقتلاع النقابات من أهل الولاء فالنقابات هي رأس الرمح في انهاء دولة القلع والزبائنية.