يتحمل المجلس العسكري المسؤولية عن التعقيد الذي انتهى إليه الوضع السياسي،منذ أن أعلن تحالف قوى الحرية والتغيير ، مساء أمس الأحد ، تعليق التفاوض معه ، واتخاذ إجراءات تصعيدية ، تشمل ، بجانب المقاومة المستمرة عبر الإضراب والإعتصام السلمي والتظاهر، القطيعة التامة مع المجلس ونظامه العسكري ، قيد التكوين، بإعلان مؤسسسات الحكم المدني البديل ، من طرف واحد ، خلال الأيام القادمة ، وذلك رداً على تعنت المجلس ومماطلته في تسليم السلطة لحكومة مدنية ” تعبر عن قوى الثورة “،ومحاولته خلط الأوراق بفرض قوى النظام الساقط كجزء من ترتيبات الإنتقال ، جنباً إلى جنب ، وعلى قدم المساواة مع قوى الثورة .وهي محاولة غير مقبولة ووجهت بما تستحق من رفض من قوى إعلان الحرية والتغيير وجماهيرها.غير أن المجلس العسكري لم يكتف بذلك ، وانما مضى في خطوة تصعيدية نحو الأبعد، باتجاه فض الإعتصام ، بقراره الداعي لفتح الطرق والممرات والشوارع أمام الحركة …الخ. وقد ظل فض الإعتصام هدفاً متقدماً يتوارثه الإنقلابيون ، جنرالاً عن جنرال ، منذ أن انتقلت بؤرة الثورة إلى ساحة الإعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة ، وهي تحتقب عهد الجيش التاريخي بالإنحياز للشعب الثائر. ويبدو أن قوى الردة والثورة المضادة ، وعبر ممثليها داخل المجلس العسكري ، حريصة على دفع الأمور ، مجدداً، باتجاه المواجهة مع الجماهير، أو اختبار تماسكها وصلابة موقفها، على الأقل، وهو اتجاه ظل يجد معارضة وسط بعض كبار ضباط القوات المسلحة ، منذ طرحه الرئيس المخلوع لأول مرة . وهو رهان خاسر ، بضوء التصميم الذي أظهره الشعب السوداني ، خلال أربعة أشهر من الثورة السلمية في مواجهة عنف الدولةالذي خلف ، حتى الآن ، أكثر من 60 شهيداً. وبضوء المواقف التي عبرت عنها العديد من القوى الدولية النافذة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الإتحاد الأوروبي ، التي نقل سفراؤها لنائب رئيس المجلس العسكري ، خلال لقاءات معه، تحذير تلك البلدان للمجلس من مغبة فض الاعتصام بالقوة. وإذا صحت تأكيدات الفريق أول عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري المتواترة ، بالتزامهم بعدم فض الاعتصام بالقوة ، فان قرار المجلس الذي تناقلته وسائل الإعلام صباح اليوم الإثنين ، بشأن فتح الطرق والشوارع والممرات أمام الحركة ، وهو تعبير مموه لأمر سلطوي بفض الإعتصام، ليس له معنى أو ليس له مايبرره،أصلاً، لكنه يصلح مؤشراً لتباين الرؤى داخل المجلس العسكري. وأن على المجلس العسكري ، بدلاً من التصعيد باتجاه المواجهة مع الحركة الجماهيرية ، أن يلتمس سبل إعادة الإتصال مع قوى الثورة ، ممثلة في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير،لأجل التفاكر للخروج من نفق الأزمة ، وأن يكف عن رعاية قوى الردة والثورة المضادة ،والنفخ في صورها و”في أشرعتها”، لفرضها كجزء من قوى الانتقال وسلطته،كما كان يفعل مجلس المشير عبدالرحمن سوار الدهب ، خلال الفترة الانتقالية 85- 1986، في تعامله مع بقايا مايووسدنتها من الاسلاميين وغيرهم، وفق توصيف للمرحوم محمد إبراهيم نقد .
فخيار المواجهة الخاسر الذي ينحو نحوه المجلس العسكري ، بدفع من قوى داخله ، ممثلة في فلول الكيزان وبقايا لجنة البشير الأمنية ، المسؤولة عن قتل المحتجين السلميين، أو بضغوط من خارجه ، من بعض المحاور الإقليمية ذات الارتباطات المصلحية بنظام الفساد والإفساد المباد،ينطوي على مجازفة تفكيك الاعتصام وسحق الثورة بالقوة، الوسيلة الوحيدة التي ظل يعتمدها النظام وورثته من المجالس العسكرية ، سليلة اللجنة الأمنية ، وذلك بهدف ضمان استمرار الحكم العسكري. وقد بدأت فلول قوى الردة والثورة المضادة في تحريض المجلس العسكري ، علناً، على التمسك بالسلطة وعدم تسليمها للمدنيين ، وهو أمر يبدو أنه يجد قبولاً وتجاوباً من بعض أعضاء المجلس العسكري ، مايفسكر تكتيكاته ومناوراته الرامية لعدم الاستجابة لمطالب الثورة بتسليم السلطة لحكم مدني يجسد قوى الثورة، والتشبث بالسلطة ، وبالتالي إعادة الوضع إلى ماكان عليه في 10 أبريل ، بإعادة انتاج النظام وتدويره بدون الرئيس المقلوع..هذا التناغم المفضوح بين بعض أعضاء المجلس العسكري من جهة ، وقوى النظام الساقط ، من جهة أخرى ، هو ما يشكل جوهر الأزمة التي تعيشها البلاد حالياً.
ومع تضاؤل احتمالات المواجهة ، للأسباب التي سبقت الإشارة إليها، ينفتح الوضع أمام احتمالات الإنفراج ، أيضاً، بما يتيحه من فرص للتوسط ، من قبل الوسطاء ، أياً كانوا، من أجل استئناف التفاوض بين طرفي الأزمة، مثلما يفسح المجال ، كذلك ، أمام ” استجابة ” جديدة ، وهو التعبير المفضل لرئيس اللجنة السياسية العسكرية بدلا من مفردة “انقلاب”. الاستجابة الجيدة ، المحتملة ، قد تفضي إلى الإطاحة بمجموعة الكيزان داخل المجلس ، بضغط من داخل المجلس أو من خارجه. قد تنطوي هذه “الاستجابة ” على ترجمة جديدة ومنقحة لإنحياز الجيش للشعب ، أكثر جدية ومصداقية . وهو الخيار الذي ظل يرافق الثورة منذ انطلاقتها الأولى من الدمازين في 13 ديسمبر ،حتى تبلورها كبؤرة ثورية أمام القيادة العامة للقوات المسلحة ، ابتداء من السادس من أبريل.
ومع ذلك لازال أمام المجلس العسكري ـ الفرصة لتجنيب الوضع الهش اختبارات القوى والخيارات الصفرية . وفي هذا الإطار يتعين عليه أن يقتلع نفسه اقتلاعاً من قبضة قوى الردة والثورة المضادة ، وارتهانها، وأن يكف عن إدعاء الحياد السياسي ومحاولة التوسط بين قوى الثورة من جهة وقوى النظام الذي ناضلت ولازالت تناضل من اجل اسقاطه وتصفيته من الجذور.
ربما لم يكن صائباً – من الناحية التكتيكية – استعداء كامل المجلس العسكري، بسبب ثلاثة أو أربعة من الكيزان ضمن عضويته، وقطع التواصل معه، مالم يكن يراهن على ” استجابة ” ما. ومع ذلك ، فإن تأجيل تحالف قوى التغيير والحرية الإعلان- من طرف واحد- كامل ترتيباتها للسلطة الإنتقالية ، يبقي المجال مفتوحاً للتوافق مجدداً مع المجلس العسكري ، فيما يخص تكوين مؤسسات الحكم الانتقالي، بما في ذلك المجلس السيادي الذي يضم عسكريين إلى جانب المدنيين . إن تمثيل القوات المسلحة في مجلس السيادة وكذلك في مجلس الوزراء (وزارة الدفاع)،هو أمر لابد منه ، بضوء المهام الجسيمة ، التي تنتظر الحكومة الانتقالية ، المتعلقة بإعادة بناء القوات النظامية ، والتعاطي مع التشكيلات شبه العسكرية ، التابعة للنظام المباد او التابعة للمعارضة.
abusimazeh@yahoo.com