يظُن كثير من الناس – بشيء من البراءة – أن ثورة الحرية والكرامة التي نستنشق عبيرها منذ ديسمبر الماضي، سوف تضع حمولتها النهائية بعد تشكيل المستويات الثلاثة للحكومة الانتقالية، وفق ما نص عليها إعلان الحرية والتغيير. وهي السلطات (السيادية والتنفيذية والتشريعية). وبالقدر نفسه يظُن هؤلاء أيضاً أن أصحاب الكفاءات الذين سيشغلون تلك المناصب، سوف يقبِلُون على أداء مهامهم وفي أيديهم (عصا موسى) التي ستحيل الدَمار إلى عَمار بين غمضة عين وانتباهتها. وبالطبع ذلك اختزال للواقع، إن لم يعد ضرباً من ضروب الوهم. فما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي.
كلنا يعلم أن السودان بلد غني بكل المقاييس، فهو يتمتع بتنوع ثقافي ثري وموارد طبيعية ضخمة. ولم تكن المشكلة لا في هذا ولا ذاك، بقدر ما تجسدت في فشل النخبة منذ الاستقلال في إدارة تلك الموارد، بصورة راشدة تعمل على وضع البلاد في مصاف الدول المتقدمة والمزدهرة. ولكن على العكس تماماً فقد أدى الفشل إلى تعقيد المشهد السياسي، وأدخل البلاد في سلسلة حروب أخذت بعضها برقاب بعض، وتهتك جرائها النسيج الاجتماعي بعد هجرة الملايين من المواطنين طلباً للرزق وتسول حقوقهم المشروعة. ولكأني بهم قد أصبحوا كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول!
إن تدمير موارد البلاد خطيئة اشترك في موبقاتها – بأقدار متفاوتة – كل النخبة السودانية في دولة ما بعد التحرر من الاستعمار، إلا أن نظام الجبهة الإسلامية الشمولي الديكتاتوري (استهلك نصف سنوات ما بعد الاستقلال). وكانت له اليد الطُولى في تدمير تلك الموارد بصورة تُعجز أي راصد عن حصرها. وبما أن هذا كتاب لم تُغلق صحائفه بعد، وكذا أننا مُقبلون على حقبة جديدة قوامها الشباب في تاريخنا الحديث، ينبغي علينا وضع اليد على الداء، وتسليط الضوء بشفافية كاملة على مكامن فشل النخبة، لربما كان في ذلك عوناً لهم في الاستفادة من دروس الماضي اللئيم.
فالنخبة السودانية وفق تصنيفنا البسيط توزعت بين ست مجموعات، شكلت الإطار المنهجي الذي يضعها في قلب الدائرة:
الأولى: نخبة وضعت نفسها في خدمة الديكتاتوريات وتهافتت نحوهم بصورة أراقت حتى الكرامة، وباتت تلعق أحذية السلطة وتشبعها لحساً ومضغاً، من باب الطمع في جاه ومجد زائف. ويضاف إلى هؤلاء الدكتاتوريين أنفسهم الذين صنعوا تلك الأنظمة الاستبدادية الثلاثة، مناصفة بين العسكر والمدنيين.
الثانية: فئة انكفأت على نفسها ونأت عن قضايا الوطن ولا تتناولها إلا ترفاً من باب تزجية الوقت، وراحت تبني حياتها بانعزالية مقيتة وتظن أن حل قضاياها الشخصية هو حل لقضية الوطن نفسه، وتتناسى أن الوطن منحها هوية لا يمكن أن تُشترى بالمال.
الثالثة: هذه الفئة يقول عنها مثل سوداني دارج (لا يعجُبها العجب ولا الصيام في رجب) فهم يدركون عمق المأساة التي ظل يعيشها الوطن ويتنكب في مزالقها، ولكنهم غلَّوا أيديهم عن تقديم يد العون والمساهمة في انتشاله. وعِوضاً عن ذلك عملوا على مداراة عجزهم وتبريره بإشاعة أجواء التيئيس بين الناس، مدعية بألا أمل يُرجى من الوطن. ويضاف لهؤلاء بعض النخب التي حكمت في أزمنة الديمقراطية رغم قصر فتراتها الزمنية.
الرابعة: هذه الفئة تشكل قاعدة عريضة من المتقاعسين، وهم بالأحرى أقرب إلى اللا مبالين، تحسبهم أعجاز نخل خاوية. قتلوا الحس الوطني في نفوسهم، ولأسباب كثيرة يعجز المكان عن حصرها اعتبروا قضايا الوطن (فرض كفاية) فصموا آذانهم بدعوى أن ثمة من يقوم بعمل كهذا نيابة عنهم. وتلك الفئة هي التي أوردها الحياد موارد التهلكة، فبادرت بحجز مكان لها في الجحيم كما قال مارتن لوثر كنج.
الخامسة: فئة غاصت في دهاليز الانتهازية ورضعت من ثديها حتى الثمالة. ولممارسة دورها كان لا بدَّ أن تجترح مصطلحات تُداري بها انتهازيتها تلك وتكون حاجباً لها من الظنون والشكوك. وهؤلاء هم من حوَّر طبيعة النضال المسلح، وهؤلاء هم من اجتهد في تقسيم الوطن جغرافياً بين مركز وهامش، لكي يكون ملاذاً لهم وهم يهرولون بين صفا السلطة ومروة المعارضة.
السادسة: هذه الفئة قبضت على جمر الوطن وهي غير عابئة باحتراق يديها. ورغم قلتها فقد ساهمت بجهد المقل في التفاعل مع قضايا الوطن طمعاً في إنقاذه من الكوارث التي تكالبت عليه. وقد صمدت هذه الفئة أمام دعاوى التيئيس والتخذيل والتخويف التي ظلَّ يرفعها سدنة الديكتاتوريات كلما أدلهمت خطوبهم. فاستمات أولئك في التمسك بالأمل والتفاؤل والعمل.
لعل من ثمار ثورة الحرية والكرامة أنها اختزلت الفئات الخمس الأوائل، أي اللا مبالين، والذين اتخذوا موقفا حيادياً مقيتاً، والذين نأوا بأنفسهم عن المساهمة الإيجابية، والذين في قلوبهم شك. فقد لوحظ محاولات انخراط بعضهم في مسيرة التغيير، ربما نتيجة لحس وطني جاء متأخراً أو تكفيراً لذنوب ارتكبوها أو تطلعاً للعب دور ما، أو محاولة إصلاح الذات، أو لأي أسباب أُخر. وهذا ما يمكن ملاحظته بسهولة، مما يستلزم الحرص الشديد والحذر من سرقة الثورة ممن تمرس على مثل هذا الفعل الانتهازي البغيض.
ما العمل؟
حتى لا تصبح تلك مجرد صيحة في وادٍ غير ذي زرع، نطرح مقترحاً بأمل أن يكفل مخرج صدق من المحنة، ويتلخص في إمكانية تكوين مجالس استشارية تتخطى حوائط البيروقراطية لكي ترفد السلطات الثلاث بالأفكار والمقترحات، وتكون سنداً لها في أداء مهامها الوطنية في الحقبة الانتقالية. ونشير في هذا الصدد إلى مبادرتين رائدتين، ربما لم يلمس بعضنا صداهما لأسباب لا تخفى على أحد.
الأولى: مؤتمر عقد في لندن تحت مُسمى (السياسات الصحية البديلة والخطة الاسعافية) عكف على اعداده نخبة من نقابة أطباء السودان بالمملكة المتحدة، بالمساهمة مع هيئاتهم المنضوين تحت ألويتها في السودان وإيرلندا وكندا وأمريكا. وجاء تتويجاً لجهود استمرت سنين عددا، ولعل عنوان المؤتمر يكفي في شرح ما أسفر عنه، لا سيما وقد ذكر المنظمين أن المؤتمر التالي سوف يكون في السودان.
الثانية: لم تأت في إطار تنظيمي وقد قامت بها نُخبة من الاقتصاديين الذين يعملون في مؤسسات دولية وفق ما رشح من أخبار، وكانوا قد انتظموا في مؤتمر جمعهم في العاصمة البريطانية لندن لبضعة أيام دون ما انتظار توجيه أو إذن أو إشارة من أحد. عكفوا فيها بأوراق عمل مختلفة على تناول الأوضاع الاقتصادية والتي تمثل حجر الرُحى في المحنة السودانية.
على هدى هاتين التجربتين اللتين تزامنتا مع فاتحة عهد جديد، يأمل المرء تفاعل النخب المهنية في كل القطاعات مع قضايا الوطن لفعل مماثل. تلك هي بالضبط عصا موسى التي ستحملها حكومة من (جنس الملائكة) تخرج الوطن من عنق الزجاجة أو بالأصح من الظلمات إلى النور، وتكون الروح قد عادت للجسد العليل!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر !
faldaw@hotmail.com