لقد خلق المولى عزَّ وجل عباده أحراراً إلا من العبوديةِ له، ولهذا فحِرمانُ البشر بعضهم بعضاً من الحرية، مُضِرٌ بطرفي المعادلة معاً..فمَن حُرِمَ الحريةَ، وسُلِب نعمةَ الإختيارِ الكريم، فبُعيد حدوث مقاساة البداية وبؤسها، يعتادُ هذا المسكين (مؤقتاً) على المهانةِ، والقمع، والمعاناة، ثم يتعوَّدُ أكثر، ويستكين، فيعتبرُ أنَّ ذلك هو أحسنُ ما يمكن، وأنه أفضلُ ما يُتاح!! وأما إذا كان (متديناً) فسيعتقدُ، خطأً، أنَّ هذا الذي أصابه هو ما قسَمَهُ الله له، وما جرت به الإرادةُ الربانيةُ في الأزل عليه، ويظُن أنَّ من ثوابت (التدين) أنَّ المرءَ المؤمنَ يقبلُ بقضاء الله وقدره، ولا يتذمّر، ولا يحتج، ولا ينازعُ أهل السلطان سلطانَهم، ثم يقولُ لك بإخباتٍ شديدٍ، وبتسليم (العبِد ما بحرَد قِسِمتُو).. وهذا بالضبط ما أطال عمر الإنقاذ !!
وأما (السيدُ) الذي حَـرَم الآخرَ الحريةَ، وفرض عليه القيد، والبؤسَ، والمذلةَ، فهو الآخر، ومع تطاول الأمد، يتدنَّى خلُـقُه،
وتنحطُّ إنسانيتُه، وتتقزَّم مبادؤه أو تنعدم، وتغلِبُ طبيعةُ الطين علي الروح في نفسِه، حتى أنه لن يرى من بأسٍ في كلِّ ما يفعل، كما لن يرى أن حرمانَ إنسانٍ آخر من حقه الطبيعي في العيش الكريم، وفي الإختيار الحُر المناسب، لا يراهُ ظلماً، ولا إفتئاتاً، بل على العكس، (فالمتدينون) من الظَّلَـمة يرَون أن ما يقومون به هو تفويضٌ من العناية الإلهية لهم، وإصطفاءٌ ربانيٌّ إختصهم به المولى عزَّ وجل، وإبتعثهم بعنايته الحانية لهؤلاء الضالين المساكين ليخرجوهم من الظلمات إلي النور، ومن الضلالة إلي الهُدى..كما يرون أنَّ المولي عزَّ وجل، ما أختارهم لهذه المهمة الشاقة، العسيرة إلا لِما يتحلَّون به من (تديُّنٍ معلوم)، وحُسن خلقٍ معروف، وقربٍ من الله مشهود، وأنه تعالى سيثيبهم خيراً، ويجزيهم الحسنى على ما يُسْدون للمساكين من بِـرٍّ، وإحسان !!!
وعلى هذا، فكلا طرفي المعادلة، مشوَّهان، مسلوبان، متضرِّران، ويستحقان المعالجةَ، والرعايةَ، وإعادةَ التأهيل، ولو بأشكالٍ متفاوتةٍ، ومختلفة !!
• إنَّ الذي جرى في بلادنا طوال ثلاثين عاماً من حكم (إسلاميي الإنقاذ) العضوض، قد أضرَّ أشدَّ الضرر بأهلِ السودان عامةً، وبالإسلامويين أنفسِهم، (وبالتجربة الإسلاموية) على وجهها المُطلق !!
الآن، وبحدوث هذه الثورة المباركة التي تظلل بـَرَكاتُها بلادَنا، المفروض أننا أنتزعنا حريتنا السليبةَ بالقوة، وأعدنا الأمر إلى نصابه كما قدَّره الله وأراده، ورجعنا أحراراً، طلقاء من قيد الإنقاذ وجبروتها..ومن الجانب الآخر، المفروض كذلك، أن أهل الإنقاذ قد إستوعبوا هذه الحقيقة، برغم مرارتها عليهم، لكونها تنزعُ عنهم أشطاراً ظلوا يرضعون منها، ودون توقف، لثلاثين من السنين، ولكن هذا لم يحدث !!
فالمشكلةُ التي يعاني منها إخوانُنا (الإسلامويون) عموماً، وكما أراها، أنهم (يُكابرون، ويُنكِرون، ولا يستحيون، وأنهم لا يعتذرون)!!
خُذ مثلاً أقربَ الإسلامويين إليك، وأحبَّهم إلى نفسِك وقُل له: (يا أخي يا فلان، لقد أخطأتم في حقنا ثلاثين سنة، وحكمتمونا بالبطش، والظلم، والجبروت، ودمَّرتم البلاد، وأهلكتم العباد، فهل لنا أن ننالَ منكم بعضَ إعتذار؟!!!)..إستمع إلي رده الأول بإمعانٍ، وبتأمل، وسوف لن يخرج من أحد إحتمالين، أو بالإثنين معاً : (اللجلجة واللَّوْلوَة، أو الإنكار، والمكابرة) !! وهاتان صفتان لا يكادُ ينجُو منهما أيُّ إسلامويٍ قط، إلا من رحِم ربي، وضِف إليهما عدم الحياء !! وأنا، لم أسمع على المستوى الشخصي، وطِوال سني الإنقاذ القاسية، إلا بمن يُعَدُّون على أصابع اليد الواحدة، ممن تغلبوا علي هاتين الصفتين، فأقرَّوا بالفشل، وأبدوا إعتذاراً خجولاً، وأحياناً بمكابرة ولَولَوة برضو !!
وعلى هذا، فإنَّ إعادة تأهيل كلِّ الشعب السوداني لإستقبال أنوار الحرية، والتمتع بها، أسهلُ بكثيرٍ من إعادة تأهيل، ودمج الإسلامويين ليكونوا ضمن بُناة الوطن المخلصين!! ومع هذا، ولحسن الحظ، فإنَّ مهمة (التأهيل) هذه ليست مستحيلة تماماً، ولكنها ليست سهلة !!
√ إذا أراد إخوانُنا الإسلامويون أن يندمجوا مجدداً مع إخوانهم، وأهلهم من شعبِ السودان، وأن يجِدوا لهم مكاناً بينهم كمواطنين صالحين، فليعلموا جيداً، أنّهم، وطوال عهدهم :
• قد كسِـبوا كراهيةً، وبغضاءَ في نفوس الناسِ جميعاً، يلزمُهم أن يبذلوا وقتاً، وصبراً طويلين حتي يزيلوهما من نفوسِ أهل السودان!
• كما عليهم أن يؤجِّلوا الحديثَ الآن عن أيِّ مشروعٍ فاضلٍ يعششُ في مخيلاتِهم، لأنهم، وببساطة، لم يعودوا مؤهلين للحديث عن أيِّ مشروعٍ أخلاقيٍّ ذي بال !! فلقد تهدَّمت مصداقيةُ الحديث عن المشاريع العظيمة لدى كل الإسلامويين، وبلا إستثناء !!
• وعليهم أن يتذكروا، ويُذاكِروا، فضيلة الحياء، وأن يعملوا بها، إذ ليس من الحياء أبداً أن يتهموا أحداً هذه الأيام بالإقصاء، أو بالإستئثارِ بسلطة !!
• وعليهم أن يخصِّصوا الفترة القادمة، وحتي الإنتخابات، على نقدِ الذات، وتأديبها، وتوطينِها، وترويضِها على التواضع، ومكارم الأخلاق، وبسط جناح الذل للآخرين، وعلى تعلُّمِ الدين الصحيح، نعم الدين الصحيح، المتسامح، والتأمل في مقتضياته، والتعرُّف على مراميه ومقاصده !!
• ومن المهم جداً لهم أن يعملوا كذلك على إستعادة إحترام زوجاتهم، وأولادهم، وأهلهم وجيرانِهم، لأنهم قد فقدوا بلا شك، وخاصةً في الشهور الآخيرة، إحترامَ هؤلاء كلِّهم جميعاً..
• وآخيراً، فسيكونُ مفيداً جداً لهم لو تأملوا في تجارب الأمم، وفي عجائب وعِبَر التاريخ، وفي حِكمة الله البالغة في أن طلوعَ الشمسِ، والقمر وغروبَهما، كليهما، تحدِثُهما إرادتُه -سبحانه وتعالى- وأنهما تحدثانِ من لدنهُ بمقدار !!