باندلاع ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2019م في السودان، بدا واضحاً أن شروطاً عديدة آذنت بانسداد أخير آل إليه الحكم الانقلابي للإنقاذ بعد ثلاثين سنة من تطبيقات أيديولوجيا الإسلام السياسي الذي بشر به الراحل حسن الترابي في رهانه على أولوية سيادة الحركة الإسلامية السودانية وإثبات ريادتها في المنطقة
ومنذ السادس من أبريل الحالي (نيسان) في تجديد ذكرى انتفاضة عام 1985م (التي أطاحت بالرئيس الراحل جعفر نميري في عام 1985م في الخرطوم) دخلت الثورة السودانية في مرحلة الكتلة الكلية الحرجة؛ بخروج أكثر من مليون متظاهر في ذلك اليوم واعتصامهم أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم، مما بدا معه جلياً أن حقبة الإنقاذ في السودان قد طويت صفحتها.
لقد تحول الموكب الأخير في خطة تجمع المهنيين للإطاحة بالنظام على مدى 4 أشهر إلى اعتصام أصبحت أعداد المتظاهرين فيه في اليوم الثاني نحو مليوني متظاهر أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم.
واليوم، بعد مرور أكثر من أسبوعين على الإطاحة بالبشير ونائبه عوض بن عوف، لايزال الاعتصام قائماً، إثر تسلم الفريق الركن عبد الفتاح البرهان للسلطة وسط ارتياح نسبي وحذر بين الثوار.
بقاء المعتصمين حتى كتابه هذه السطور أمام مقر قيادة القوات المسلحة بمئات الآلاف عكس وعياً بنجاح التدابير التي ظل ينظمها “تجمع المهنيين السودانيين” في قيادته للحراك الثوري. وكان “التجمع” (الذي ألهم تحت قيادته شابات وشباب الثورة) قد تمكّن من جمع غالبية الأحزاب السودانية الحية للاتفاق على وثيقة “إعلان الحرية والتغيير” التي تبناها.
تداعيات ما بعد الثورة لم تكن كما التي قبلها؛ لأن أحوال ما بعد السقوط تضمر باستمرار نوايا ثورة مضادة. وهذا ما لاحظه الناس بين بعض عناصر المجلس العسكري الانتقالي الذي يترأسه الفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بـ”حميدتي”. الأخيران لم يشملهما تأثير “الأسلمة” في القيادات العليا للجيش؛ فالبرهان الذي كان مهنياً منضبطاً داخل الجيش غير حميدتي الذي جاء إلى الجيش من خلفية الصراع في دارفور، وتمت ترقيته في الرتب العسكرية من طرف الرئيس المخلوع إلى أن وصل رتبة فريق وعمره لم يبلغ 43 سنة، تتويجاً للنجاحات التي حققها في حرب دارفور، لكن، ما إن تمكن حميدتي من إنهاء الحرب هناك، حتى ألحق البشير قواته (قوات الدعم السريع) بالجيش تحت قيادة الرئيس المخلوع شخصياً، وفيما كان البشير يدخر حميدتي ليوم أسود، خوفاً من الجيش، سجل الأخير مواقف واضحة في الانحياز إلى الثورة برفضه تنفيذ أوامر البشير لفض الاعتصام بالقوة.
حركة الثورة المضادة يقودها داخل المجلس العسكري الانتقالي، ثلاثة من كبار الضباط؛ منهم الفريق عمر زين العابدين (رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري الانتقالي) الذي عرقل ترتيبات كان يمكن التوافق عليها ضمن وثيقة “إعلان الحرية والتغيير” للخروج من الأزمة الحالية، وهي وثيقة تقضي بقيام مجلس سيادة مدني. فيه تمثيل للعسكريين، ومجلس تشريعي، وحكومة تكنوقراط مدنية خالية من أي عنصر حزبي مدتها 4 أعوام كي تتمكن من ترتيب أعباء المرحلة الانتقالية إلى حلول الانتخابات.
شرعية قوى “إعلان الحرية والتغيير” يعكسها الشارع والملايين الذين اعتصموا أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم وفي مختلف المدن السودانية (ومازالوا هناك) وهي بهذا المعنى يصح القول أنها شرعية تمثل قوى الشعب الحية التي قادت الحراك الثوري طوال 4 أشهر، ولهذا من حقها الانفراد بتشكيل الهياكل الانتقالية للسلطة المدنية فيما تعارضها قوى سياسية حزبية شاركت في مختلف أطوار نظام المؤتمر الوطني، وحجتها: أنه لا إقصاء لأحد في تشكيل هياكل السلطة الانتقالية ـــ إلا المؤتمر الوطني ـــ. ويحتج الإسلاميون بأن الذين شاركوا في الثورة ليسوا هم كل الشعب السوداني للطعن في تمثيل قوى “إعلان الحرية والتغيير “.
وعلى الرغم مما تعكسه هذه المقولة من صحة نسبية، فإن فيها مغالطة واضحة؛ ذلك أن كيفية تمثيل تجمع المهنيين وقوى “إعلان الحرية والتغيير” للشعب تتضح في الفكرة التي تقول: إذا صح أن الجميع مقتنعون بأن ما حدث في السودان ثورة قام بها الشعب السوداني ولا أحد يشك في ذلك. فلا يصح القول أن الشعب السوداني لم يقم بالثورة، لأن الثوار لم يكونوا هم كل الشعب الذي خرج إلى الشوارع والميادين!
ولعله على هذا النحو يمكننا قياس تمثيل تجمع المهنيين للشعب السوداني!
ومنذ نهايات الأسبوع الماضي بدا الاحتقان واضحاً بين القوى السياسية بلغ فيها الاستقطاب حدا غير مبرر، من عودة للشيوعيين والعلمانيين في تحالف قوى “إعلان الحرية والتغيير ” ، وخطب داعية مشهور ذي علاقة غامضة بنظام البشير مدافعاً عن عودة العهد البائد باسم عودة الشريعة، ما أدى إلى حراك لعناصر الثورة المضادة في المجلس العسكري الانتقالي، عبر لقاءات تم عقدها مع بعض الشيوخ والدعاة.
كانت ذروة الاحتقان حين أعلنت قوى “إعلان الحرية والتغيير”، في خطوة غير مدروسة من قلب ساحة الاعتصام: تعليق المفاوضات مع المجلس العسكري الانتقالي. فيما كان الصواب يقتضي تعليقاً للحوار مع اللجنة السياسية فقط في المجلس لا مع المجلس كله؛ في وقت كان المجلس العسكري يبرهن كل يوم على جدية واضحة حيال العديد من القرارات الوطنية؛ كحل حزب المؤتمر الوطني والتحفظ على مؤسساته، وسجن البشير وأبرز معاونيه، وتوقيف بعض رموز النظام السابق في المطارات، وغيرها كثير .
بطبيعة الحال، أضمر الاستقطاب رهانا ذا خلفية أيديولوجيا قديمة للصراع بين الطرفين وهو عادة رهان يختطف معنى الوطن في سياقات حزبية ضيقة.
وبوساطة شخصيات وطنية حثت قوى “إعلان الحرية والتغيير ” على إعادة النظر في موقفها الشامل من المجلس الانتقالي؛ جاء المؤتمر الصحافي لقوى “إعلان الحرية والتغيير” يوم الأربعاء الماضي ليصحح موقفها من المجلس، وليحدد الجهة المعنية بتعليق الحوار معها (اللجنة السياسية في المجلس الانتقالي) لا المجلس برمته، فكانت خطوةً إيجابية التقطها المجلس العسكري الانتقالي ودعا قوى “إعلان الحرية والتغيير” إلى اجتماع في مساء الأربعاء 24 أبريل استمر حتى قبيل منتصف الليل ليخرج الاجتماع بنتائج إيجابية وروح وطنية متفائلة، أكد فيها المجلس العسكري تمثيل قوى “إعلان الحرية والتغيير” لقوى الثورة، وإيكال مهمة تشكيل هياكل السلطة الانتقالية لها، إلى جانب تكوين لجنة مشتركة لبحث نقاط الخلاف.
لايزال الوضع في صعيد بناء الثقة بين الطرفين والنتيجة مرهونة بالظهور خلال أيام، فالمجلس الانتقالي يعرف تماماً أنه غير مرحب به، لا من طرف الاتحاد الأفريقي، ولا من المجتمع الدولي، لهذا يبدو أن التسريع والخروج بتوافق مشرف بين الطرفين سيكون في صالح السودان.
المصدر: INDPENDENT عربية