ما حدث صباح 11 نيسان/ إبريل لم يكن “انحياز الجيش للشعب”، بل هو محاولة التفاف على مطالب الشارع عبر انقلاب غير تقليدي أزاح رأس النظام لكنه متمسك أكثر من أي وقت مضى ببقاء النظام. وبدقة أكثر، يمكن توصيف ما حدث بأن تياراً داخل السلطة استغل ثورة الشعب للانقلاب على التيار الآخر.
أربعة أشهر من المظاهرات المتواصلة انتهت باعتصام مليوني في محيط قيادة الجيش السوداني في السادس من نيسان/ إبريل 2019 تزامنا مع ذكرى “انتفاضة إبريل 1985” التي أزاحت حكماً عسكرياً. هذه الشهور المتصلة تُوجت بخلع البشير صباح الحادي عشر من نيسان/ إبريل. والمشهد – على الرغم من الفرح الشعبي الغامر بعد خلع الطاغية – بدا ملتبساً منذ إذاعة البيان، حيث تفاجأ الرأي العام بأن المجموعة التي اتخذت إجراء عزل البشير هي جزء أصيل من النظام السابق، وأن الإجراء تم عبر لجنة أمنية عليا وليس عبر مؤسسة الجيش كما هو متعارف عليه، واللجنة العليا هي لجنة تمّ تشكيلها مؤخراً لإدارة الأزمة منذ تفجر الغضب الشعبي في كانون الاول/ ديسمبر 2018.
ماذا حدث في ذلك الليل وما تلاه؟
ومن الموضوعي جداً تشريح وتوصيف السيناريو الذي تم ليلة العاشر من نيسان/ إبريل قبل إذاعة البيان. فبعد مضي اليوم الرابع على الاعتصام المليوني الذي حاولت سلطات الأمن فضه بالقوة عدة مرات، وراح في ذلك عدد من الضحايا، اجتمعت اللجنة العليا لتبحث كيفية التعاطي مع هذا المشهد المعقّد، فكانت توجيهات الرئيس وبعض معاونيه بفض الاعتصام بقوة السلاح على نحو سريع وكأنه يقول (ليمت من يمت ويحيا من يحيا). إلا أن الأمور سارت لصالح الشار،ع وعكس توجيهات الرئيس المخلوع، حيث كان قرار عزله في وقت مبكر من الصباح التالي.
لكن ظهور نائبه الأول ووزير دفاعه، عوض ابن عوف، وهو يتلو بيان عزل البشير أشعل غضب الشارع على نحو لافت، حيث تضاعفت الحشود في محيط القيادة رافضة ما اعتبرته “مسرحية” لإعادة إنتاج النظام القديم. لكن بن عوف، وتحت الضغط الشعبي، قرر التنحي بعد مضي نحو 30 ساعة من بيانه الأول، ليصبح الفريق عبد الفتاح البرهان رئيسا للمجلس العسكري الانتقالي.
حميدتي والجنجويد
لعل الأمر اللافت في سيناريو إزاحة البشير بعد أربعة أشهر من الضغط الشعبي المتصل، هو الموقف الذي اتخذه قائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان حميدتي، الذي يقود جيشاً يكاد يكون موازياً للقوات المسلحة. وحميدتي هو قائد مليشيا عربية في دارفور متورطة في حروب الإبادة، والصورة الذهنية لقوات حميدتي التي أُصطلح عليها إعلامياً بـ “الجنجويد” صورة سيئة للغاية ارتبطت بأعمال حرق القرى واغتصاب النساء في دارفور، وحينما استدعاها البشير قبل سنوات عديدة لتتمركز حول الخرطوم في محاولة لحمايته من أي خطر يهدد بقائه على سدة السلطة، مارست بدرجة محدودة أفعالها المشينة داخل العاصمة نفسها.
لكن قائد المليشيا انتبه بذكاء إلى ضرورة تحسين صورة قواته، بما في ذلك صورته هو، ويبدو أن بعض من حوله حدثه بأهمية أن يلعب دوراً سياسياً عاماً يكسبه دعماً شعبياً، وبالمقابل يحسن صورته أمام الراي العام السوداني.
فعلياً، كان موقف هذه القوات من فض المظاهرات مؤثراً لدرجة كبيرة، فقد جنّب الخرطوم مجزرة تاريخية لو أنه انصاع لأوامر البشير وشارك في فض الاعتصام أمام مقر القيادة العامة. فهذه القوة الموازية تمتلك أسلحة وسيارات دفع رباعي وجنود بما يمكّنها من السيطرة على الخرطوم في زمن وجيز وهو الأمر الذي يثير غضب القوات المسلحة النظامية.
هذه القوات التي باتت بأمر القانون قوات رسمية، تمثّل قنبلة موقوتة وحجر عثرة أمام المرحلة القادمة: فهل يتم دمجها في القوات المسلحة أم تسريحها ونقل أسلحتها لقيادة الجيش؟ وهل يقبل بهذا حميدتي، المدعوم إماراتياً والذي بات متطلعاً لدور سياسي.
غير أن القضية الآن ليست مصير قوات “الجنجويد”، فهذا فصل من مشهد بالغ التعقيد خلفه البشير ورائه. دخول قوات الدعم السريع كحليف رئيسي في عملية التغيير خلط الأوراق تماماً، فمن المرجح ألا تقبل حركات دارفور بوجود أعدائها ضمن حلفاء التغيير، وقد بدأ النشطاء المهتمين بدارفور بإعلان استيائهم ورفضهم وجود حميدتي على سدة الحكم في مرحلة ما بعد البشير. لكن حلفاء الحركات في الداخل يرغبون في غض الطرف حالياً عن الحديث سلباً، أو اتخاذ اي موقف ضد حميدتي، ريثما تنتقل البلاد إلى مرحلة أكثر صلابة.
الفاعلون الاقليميون
يبدو أن الفاعلين في المشهد السوداني في مرحلة ما بعد البشير ليسوا هم اللاعبين الداخليين، فهناك فاعلين إقليميين يوازي دورهم الدور الداخلي على المستوى السياسي.
انخرط البشير خلال سنواته الأخيرة في محور “السعودية، الإمارات ومصر”، وهو الحليف التاريخي لقطر الداعمة لتنظيمات الإسلام السياسي، الأمر الذي فُسر بأنه تحولات كبيرة في علاقة البشير مع “الإخوان” الذين يحكم بغطائهم السياسي. رويداً رويداً مضى البشير المحاصَر بالأزمات في التخلي عن الولاء لـ “الإخوان” مقابل الحصول على دعم اقتصادي من دول المحور الثلاثي. لكن خلال الشهور الأخيرة فتُرت العلاقات بين البشير وحلفائه الخليجيين الذين فقدوا الثقة فيه لدرجة كبيرة نظراً للمراوغة التي كان يتبعها ومحاولة الحفاظ على شعرة معاوية مع جميع الأطراف. فقد البشير الحليف التاريخي والحليف الجديد، وحاصرته الأزمات حتى سقط. لكنه حتى سقوطه كان يميل لمحور “السعودية، الإمارات ومصر”، ولا تزال القوات السودانية تقاتل في اليمن ضمن “التحالف العربي” الذي تقوده السعودية.
بعد ذهاب البشير، سارعت دول ذلك المحور بإعلان مساندتها للمجلس العسكري الانتقالي وزار وفد إماراتي – سعودي الخرطوم للتباحث حول العلاقات والدعم الاقتصادي للمجلس في مرحلة ما بعد البشير، وأعلنت دولتا الإمارات والسعودية عن دعم مالي سخي للسودان.
ويبدو أن الإمارات والسعودية تعولان كثيراً على المجلس العسكري الذي يسيطر عليه قائد قوات الدعم السريع “حميدتي”، وتتطلع هذه الدول إلى خلق دور فاعل له على المستوى الداخلي والإقليمي. لكن حميدتي الذي يمتلك السلاح والمال، لا يمتلك القبول الشعبي ولا الكفاءة التي تجعله على سدة القرار. ومن غير المرجح أن يقبل المتصدون لعملية التغيير من الشباب بدور فاعل لحميدتي مستقبلاً، علاوة على أن القوات المسلحة متململة من وجود هذه القوة الموازية، الموالية للبشير في وقت سابق والموالية للشارع حالياً. ومن المرجح أن تتخذ القوات المسلحة على مستوى ضباطها بالرتب المتوسطة والصغيرة مواقفاً صارمة تجاه هذه القوات أو حتى تجاه المشهد الذي لا زال مرتبكاً ولا زال المجلس العسكري يتلكأ في اتخاذ قرارات قاطعة وحاسمة بشأن النظام البائد ورموزه.
الصورة ضبابية ومقلقة
مضى أسبوعان على إعلان مجلس عسكري انتقالي وإنهاء حكم البشير، لكن الواقع أن الصورة لا تزال ضبابية ومثيرة للقلق، إذ لا يزال المعتصمون يفترشون ساحة القيادة حتى تحقيق المطلب الأول وهو تسليم السلطة لحكومة مدنية. والمجلس العسكري الذي بدا تعاطفه مع النظام البائد واضحاً، لا يزال يتلكأ في تسليم السلطة لـ”قوى إعلان الحرية والتغيير” وهي القوى السياسية التي قادت الثورة. ويبدو أن الخلاف بين قوى الحرية والمجلس العسكري أكثر تعقيداً مما يظهر في الإعلام، فلا زال المجلس متمسكاً بإشراك الجميع في المرحلة الانتقالية، بينما قوى الحرية والتغيير تعتقد أنها الممثلة الوحيدة للشارع باعتبار أن الذين كانوا داخل السلطة حتى سقوط البشير لا مكان لهم في المرحلة الانتقالية، وتبدو حجتها منطقية وتجد تأييداً مطلقاً من جماهيرها.
لكن وأيضاً، لا يخلو تحالف “قوى الحرية والتغيير” من بعض الخلافات بين القوى السياسية المكونة له. فهي لم تتفق بعد على تشكيلة الحكومة المدنية، فلم تعلن أسماء حكومتها وتفاصيل رؤيتها لمؤسسات السلطة الانتقالية. وقد أجلّت الإعلان عن ذلك مرتين، مرة لمزيد من التشاور ومرة أخرى بعد استئناف التفاوض مع المجلس العسكري.
المشهد الآن: مجلس عسكري مدعوم خليجياً، وهو كان جزء من النظام البائد ولا زال متعاطفاً معه، إذ لم يعلن بشفافية أسماء ورموز النظام البائد الذين تمّ اعتقالهم، بل أن الشارع بات غير واثق مما يقوله المجلس العسكري بما في ذلك بخصوص حملة الاعتقالات. وتنقل بعض الصحف أن بعض رموز النظام تمّ إطلاق سراحهم. وفعلياً، فان النظام البائد لا زال يعمل بشكل طبيعي في كل المؤسسات إذ لم يتخذ المجلس العسكري الخطوات والإجراءات التقليدية التي تحدث عقب إزاحة أي نظام.
لذلك يبقى من غير المنطقي توصيف ما حدث صباح 11نيسان/ أبريل بأنه “انحياز الجيش للشعب”. وبدرجة دقيقة يمكن توصيف ما حدث كمحاولة التفاف على مطالب الشارع عبر انقلاب غير تقليدي أزاح رأس النظام لكنه متمسك أكثر من أي وقت مضى ببقاء النظام، وبدقة أكثر يمكن توصيف ما حدث هو أن تيارا داخل السلطة استغل ثورة الشعب للانقلاب على التيار الآخر. والتيار الذي أزاح البشير موالي بشكل ظاهر لدول “المحور الثلاثي” لكنه لا يرغب في مصادمة النظام البائد المتعمق في مفاصل الدولة. هذا الوضع الهش ربما يمنح هذا النظام فرصة لترتيب صفوفه ومحاولة تنظيم ثورة مضادة، وليس بعيدأ أيضاً أن تكون مدعومة من محور آخر.
الشارع لا زال في زخمه، ولم يفقده حتى الآن، متمسكاً بالحكومة المدنية والانتقال الكامل للحكم. لكن يبدو أن المرحلة الحالية لا يكفي فيها الشارع وحشوده البشرية. المرحلة تحتاج تصعيد سياسي إقليمي ودولي للضغط على المجلس الانتقالي لتسليم السلطة وتحقيق أهداف الثورة التي مُهرت بدماء اليافعين.
المصدر: السفير العربي