بعد أن زلزلت أرض السودان زلزالها، أخرجت من غُرف
النوم أثقالها. (شنط) حديد محشوة بملاين الدولارات الخضراء. وبعملات أخرى وبمعدن الذهب
الأصفر عيار29.
لم يدهشني حجم السرقة مثلما أدهشني حجم الكذب المرضي ومعدل
التخلف في السرقة. عند سقوط البشير كلنا نعرف أن النهب الرسمي صار ممارسة عادية للرؤساء
الذين أطاحهم مسلسل الربيع العربي. فكل من أطيح به كان له بنكا مركزياً داخل قصره.
ولكن ما ميز نهب الفريق البشير اختلافه في الدرجة وفي استخدام الشنط. بينما سرقة زملاء
البشير كانت مرصوصة ومرتبة ونظيفه وفي غرف مكيفة. هكذا حط صاحبكم من مهارة زملائه السراقين.
فوضع الدولارات في شنط حديد وفي غرف النوم، يعد ضرباً من سمات عقلية عريف متواضع حتى
في النهب. وإذا كان زملاء البشير امتازوا باحترام الدولار فإنه للحق يتفوق على
رصفائه المخلوعين في مجال الظهور بأنه ورع وعفيف اليد وينتمي للمساكين وأنه كان
يعمل في (الطلبة) و(سنه انترمت) فيها ويحتفظ بها ليتذكر ويمتنع عن (خفة اليد). ويتفوق
عليهم إطلاق الكذبة وتصديقها. ففي أثناء المظاهرات قال في افتتاح طريق في شمال
كردفان بأن واحد (قال لي) بأن – الساجة – التي وضعها تحت اللوري في القيزان قد
خدشت يده !! ثم مد يده للجمهور) ليدلل على صدقه مثلما يظهر سنه كلما تكلف التبسم.
لكن الشنط كشفت اليوم أن هذا كذب مرضي. وهو ذات الكذب
المرضي الذي دفعه لارتداء أزياء رجال الدين وأنه ناطق باسمه. فقد قال عندما استضافه
أحد الشيوخ في(الكريدة) أنه طبق الشريعه وعمم ممارساتها. وفي الأسبوع الأخير من
فبراير الماضي قدم نفسه أمام علماء (الجبهة الإسلاميه) الذين تناولوا معه (العشاء
الأخير) بعباءة صفراء فاقع لونها وأعلن الطواريء ضد تجار العملة (الذين خربوا
الاقتصاد). وبموجب قانون الطواريء صار يصادر أي مبلغ بالعملة الصعبة يتجاوز ثلاثة
آلاف دولار. ولكنه في آن كان يخزن الدولارات في شنطه.
وبالمثال يتضح المقال. فقد صادفت طوارئ المخلوع أحد معارفي
المهجرين وهو في إجازته. ولسوء حظه ذهب لمنطقة جهاز شئون العاملين بالخارج لعرض
دولارت ليشتري بها سيخ واسمنت لمنزل حاول أن يكمله منذ خمس سنوات. وبينما كان يبحث
عن سعر أفضل قبض عليه بصاص تابع للنظام. وفتشه بقسوة الإنقاذ وغبينة جلاوزتها وعثر
البصاص على مبلغ يتجاوز مبلغ طواريء صاحب الشنط. ابتهج. وفي طريقه للأمن الاقتصادي
استعطف المغترب الجلاد. قائلا زول على قدر حالي. وهذا هو جواز سفري للفحص. وهذه
المبالغ بعضها أمانات. والشاهد تعاطف معه الضابط المسئول وأخلى سبيله. بعد لحظات انتظار
صاحبها تهديد وتخويف ووعيد وتلويح بقانون الطواريء. مما يطرح سؤالا لماذا تطبق قوانين الإنقاذ على الأبرياء وتغض
الطرف عن الشنط المخبأة في غرف النوم؟
البشير ليس استثناء من رؤساء سرقوا شعوبهم وأجبروا على
مغادرة مقاعد السلطة. ولكن تبقى الحقيقة أنه مهما كانت آثام ومخازي المخلوعين فإنهم
لم يقسموا دولهم ولم يحتفلوا بانفصال أجزاء منها. وعلى العكس ضم رئيس مخلوع مساحة لمصر
تساوي دول هي(حلايب وشلاتين). والرئيس بوتفليقه غادر دون أن يعلن حرب إبادة على أي
مكون أساسي كما حال أهلنا بدارفور ولم يقتل حتى متظاهرا واحدا حتى اللحظة. وفي
الحقيقة ترك المجاهد بوتفليقة نسبة نمو تعادل 3.6% ومثله حسنى مبارك وامتاز بوتفليقه
بأنه انتشل الجزائر من العشرية السوداء. ولكن صاحب الشنط ترك بلدًا منهارا وممزقًا
ومنفصلا وضعيفًا ومتداعياً اقتصاديا وبه معدلات بطالة مرعبة وأفقًا مسدودًا. بل يكاد
البنك المركزي المعلن أن يكون بدون جنيهات سودانيه. وكان يعلم أن الجلاوزة يخفون الكتلة
النقدية في دهاليز المدينة الرياضية أو يشحنوها في شاحنات مثل التي قبض على بعضها
في قرية أم قرفة في شمال كردفان. إذن البشير حالة تجسد طبيعة نظامه وما البشير إلا
عينة لزملائه من إسلاميي السودان.
إن شنط البشير بقدرما كشفت حجم الفساد والاستبداد وإلى
أين تقود الممارسات القمعية وثَّقت لحجم إهدار الموارد مما أورث بلادنا البؤس
والفقر والمسغبة والديون التي تنوء بحملها أولوا العصبة من الدول.
ومع ذلك فإن الصورة ينبغي أن لا تكون كالحة، فكل مأسأة
تطرح فرصها وكل محنة بالضرورة منحة وأن العطايا في طي المنايا. ولهذا يُرجى أن يندفع
السودانيون في تسليك درب الحكم المدني والحوكمة الرشيدة وإفشاء ثقافة المساءلة
والمحاسبة والإنتاج. والترفع عن العزل والقتل وغسل الدم بالدم. فتلك هي الوصفة
التي تخرج بلادهم من النفق المتخلف ومما حرشتهم فيه دولة السراقين.