“الشعبوية” بضاعة رائجة هذه الأيام، وتمثل
خطراً كبيراً على الثورة التي اقتلع بها الشعب واحدة من أسوأ الدكتاتوريات
العسكرية التي عرفها هذا العصر.
وتعتمد “الشعبوية” على دغدغة مشاعر
الجماهير، وكسب تعاطفها باللعب على القضايا التي تشغل تفكيرها، والإيهام بإيجاد
حلول لها، كما تتمثل في إثارة تلك الجماهير وتشكيل وجهة نظر مضادة ضد أشخاص، أو
أفكار أو سياسات، أو حتى شعوب.
ويبدو واضحاً اليوم في ظل تواضع الأداء الإعلامي
السوداني، سواء لأجهزة الإعلام الرسمية والفضائيات الخاصة، أم للصحافتين الورقية
والإلكترونية أن المعركة تستعر بين معسكري “العربية”
و”الجزيرة”، كل واحد منهما يجيِّشُ قدراته الإعلامية في خطاب شعبوي
يحاول التذاكي، والتخفي وراء المهنية.
كما تشتعل وسائل التواصل الاجتماعي برسائل
“شعبوية” تحاول أن توجه دفة الأحداث لمصلحة من يقف خلفها، ومن هؤلاء عثمان
ذو النون الذي اكتسب شعبية من خلال الخطاب المباشر عبر الفيسبوك طوال مدة الثورة، وكان
له دور تحريضي لا يمكن تجاهله، من خلال تأثيره في عدد كبير من متابعيه وخصوصاً
الشباب، إلا أنه بالأمس ظهر في بث مباشر من ساحة الاعتصام، وكان من الواضح أنه
اختار معسكر حميدتي، مبرراً أنه الأقدر على مواجهة الإخوان المسلمين، وهذا الانحياز
ينال من شعبيته من دون شك، وهو يعلم ذلك جيداً، إلا أنه قد يكون اختار الاستثمار
في الشعبية التي اكتسبها في الفترة الماضية.
ومن قبل كانت هناك صوتيات تدعم “المؤتمر الشعبي”،
وأخرى تنال من المجلس العسكري، ومن تجمُّع المهنيين السودانيين، وتمثل الأحزاب
السودانية على تباين مواقفها هدفاً أصيلاً للخطاب الشعبوي، حتى وصلت إلى قناعة بأنَّ
أكثر ما نجح فيه نظام الإنقاذ هو دفع الناس إلى كره الأحزاب، في حين أن ثورتنا هدفها
إقامة حياة سياسية سليمة، ولا شك أن قوامها الأحزاب.
وهذه الشعبويات تعتمد على القدرة الخطابية، وإثارة
الشك، وتغبيش الحقائق، وبعضها بضاعته “قلة الأدب” والافتراء، وكل هذا
استثمار يرجو منه أصحابه المصلحة الشخصية صيتاً كان أم مالاً أم منصباً.
ويبدو أن هذا الذي نعيشه ونلمسه جزءٌ من طبيعة العصر،
الذي لا ننال منه الإيجابيات، بقدر ما تنال منا سلبياته، ومن ذلك الشعبوية التي
كانت سبباً في صعود ترمب في أكبر دولة في العالم، وهي قمة شعبوية العصر، إذ لعب
ترمب على أشواق الشعب وتطلعاته، ومخاوفه أيضاً.
وعلى الرغم من قدم هذا النوع من الخطاب، إلا أن وجود
وسائل التواصل الاجتماعي في أيدي عموم الشعب يضاعف من تأثيره في تشكيل اتجاه الرأي
العام.
وأرى أن هذه الشعبوية تؤثر في سياسة الدولة وتوجهاتها،
وتجعلها تحت ضغوط شعبية تضطرها إلى تبني مواقف واتخاذ قرارات قد لا تكون صائبة،
ومحققة للمصلحة العامة.
وكنت أتمنى أن يتركز تفكيرنا في هذه المرحلة في تحديد
شكل الحكم الانتقالي، وتوصيف المهام والمسؤوليات، لتأتي الفترة الانتقالية سلسة
وممهدة للفترة التي تليها، والتي نأمل أن تدوم، وهي فترة الحياة الديمقراطية
الكاملة الدسم.
إن ما يحدث الآن أننا في الشارع نحاول أن نضع خريطة
طريق عجلى، وندخل في اختصاصات من سيتولون المسؤولية، ومن ذلك فرض رؤى وسياسات
للوضع الداخلي، وتحديد مواقف من القوى السياسية في المشهد السياسي السوداني، واستعداء
دول حولنا من هذا المعسكر أو ذاك؛ لنصبح في الواقع على عداء مع كل دول الجوار.
علينا أن ندرك بأن سياسات الدول تنبني على المصالح، لا
على الخطاب العاطفي الآني، وإقرار السياسات من اختصاص من يمنحه الشعب ثقته، ومن
المعيب أن يظن كل من يعتلي مسرحاً، أو يمتطي صهوة الأثير مخاطباً الناس، وهو منزوٍ
في غرفة، ويتحدث بانفعال عما يجب، وعما لا يجب، أنه هو الشعب.. أرجوكم احذروا
الشعبوية.